اشتُهرت في مجال البحوث والدراسات الاجتماعية والنفسية نظرية تدعى «القرود الخمسة»؛ للدلالة على أن كثيرًا من السلوكات تنتقل من جيل إلى آخر، ولو كانت خاطئة، دون وعي أو تمحيص. واستُخدمت النظرية مؤخرًا في مجال الإدارة وفي أدبيات تطوير الذات أو ما يُعرف بـ«التنمية البشرية».
تتلخص النظرية في التجربة التالية: (أحضرْ خمسة قرود، وضعها في قفص، وعلِّق في منتصف القفص حزمة موز، وضع تحتها سُلّمًا. ستجد أحد القرود ولنُسمِّه (أ) يصعد السلّم محاولًا الوصول إلى الموز. والآن، كلما حاول القرد (أ) أنْ يلمس الموز، أطلقْ رشاشًا من الماء البارد على القردة الأربعة الباقية وأرعبهم. بعد قليل سيحاول قردٌ آخر ولنُسمّه (ب) أن يعتلي السلم ليصل إلى الموز. كررْ العملية نفسها، رش القردة الباقية بالماء البارد. كررْ العملية أكثر من مرة.. بعد فترة ستجد أنه ما إن يحاول قرد أن يعتلي السلم حتى تمنعه المجموعة؛ خوفًا من الماء البارد.
الآن، أخرجْ قردًا من الخمسة، وضعْ مكانه قردًا جديدًا (س)، هذا القرد لم يعاصر حادثة رش الماء البارد؛ لذا سرعان ما سيذهب إلى السلم لقطف الموز. حينها ستهبُّ مجموعة القردة لمنعه بل ستهاجمه. سيقف القرد (س) مستغربًا، ولكن بعد أكثر من محاولة سيتعلم أنه متى حاول قطف الموز فسينال عقابًا من مجتمعه دون أن يعرف سببه.
الآن، أخرجْ قردًا آخر ممن عاصر حوادث رش الماء، وأدخل قردًا جديدًا، وسمّه (ص)، ستجد المشهد السابق يتكرر. القرد (ص) يذهب إلى الموز بكل براءة، فتنهال القردة عليه ضربًا لمنعه بمن فيهم القرد (س) الذي لم يعاصر رش الماء ولا يدري لماذا تعاقبه القردة، غير أنه تعلَّم أن لمس الموز يعني عقاب المجتمع له؛ لذلك سيشارك في ضرب (ص)، وربما بحماس أكثر من باقي القردة.
استمر في تكرار العملية، أخرج قردًا ممن عاصر حوادث رش الماء وضع قردًا جديدًا. النتيجة: سيتكرر الموقف. كرر هذا الأمر إلى أن تستبدل المجموعة القديمة بكاملها (الجيل الأول) بقرود أخرى (جيل ثان). في النهاية ستجد أن القردة تنهال ضربًا على كل من يقترب من سُلم الموز. لماذا؟ لا أحد منهم يدري).انتهى.
ضررُ التقليدِ الأعمَى
النظرية تشير بوضوح إلى ضرر التقليد الأعمى الذي يقتل روح الإيجابية والمقاومة، ويؤدي، من ثَمَّ، إلى ذوبان الشخصية واضطرابها وما يجرّانه من سيطرة الانهزامية والاستسلام وترك الآخرين يشكّلون سلوكنا، فتصير لدينا «برمجة شعورية» تمنع المنطق والتفكير، والنقد والإصلاح، قانعة بالسير خلف حادٍ ولو كان في ندائه الشؤم، كما أنبأ الشاعر: (ومن يكنْ الغرابُ له دليلًا… يمرّ به على جيفِ الكلابِ).
والإسلام بريء من هذا التواطؤ وذلك الجبن، فلا يرضى لأتباعه التبعية والجمود وتعطيل فريضة التفكير، وقد عاتب الله أقوامًا سلكوا مسلك القردة في النظرية ولم يستنطقوا عقولهم، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170]، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف: 22].
ولا زال التاريخ مُثنيًا على موقف «المطعم بن عدي»، وهو من أجار النبي ﷺ لدى عودته من الطائف، مخالفًا بذلك قومه المشركين جميعًا، وهم ذوو بأس وأنفة مما لا يخفى على أحد، وهو أيضًا من شقّ الصحيفة الجائرة مع أربعة آخرين فأُخرج المسلمون من شِعْبِ أبي طالب، وقد قدَّر النبي ﷺ صنيعه فقال يوم بدر في أسارى المشركين: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».
ثورةُ «إبراهيمَ» على السلبيّةِ والجمود
ولقد ضرب القرآن الكريم المثل بنبي الله إبراهيم -عليه السلام- الذي لم يرضَ بهذا التغييب العقلي، فأحدث ثورة في قومه على هذه البلادة المجتمعية التي جعلتهم يعبدون غير الله، ويسجدون لأصنام لا تنفع ولا تضر؛ فكان لذلك «أمة»، ومن لم يكن له من فعل إبراهيم نصيبٌ، في إيجابيته ومبادأته، فإنه يضر ولا ينفع، ويخسر ذاته، ويُعدُّ من السفهاء؛ (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [البقرة: 130].
فالمسلمُ ذو همّة عالية، غير قاعد ولا متخلّف، مقدام غير هيّاب، يستعيذ بالله من الجبن والمسكنة، مستمسك بما جاءه من الحق، غير مفرّط ولا مبدّل ولا متضعضع ولا إمعة، وليس صفرًا ولا تابعًا ولا معطِّلًا لعقله، يحذر عقاب الله للذين يسيرون في مواكب الخطيئة دون تبيّن؛ (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ..) [المدثر: 45]، وهو متجاوبٌ متفاعلٌ معطاءٌ حيٌّ متحركٌ، غير متقوقع أو منزوٍ أو بليد أو منغلق أو كسول؛ (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل:76].
خيرُ أمّةٍ أُخرجت للنّاس
إن من أشهر صفات هذه الأمة هي الخيرية؛ والتي تعني مجابهة الفساد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ( [آل عمران: 110]، أما دستور الأمة، وهو القرآن، فإنه حاشدٌ بالدعوة إلى الإيجابية ونفي السلبية، وإلى الاستقلالية ونفي التبعية، وإلى التقدم والنهوض، والسبق والتحضر، وإلى التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وألّا نقول زورًا أو نغشى فجورًا. وعلّمنا ديننا أن تكون يدُنا هي العليا، وأن نجود بما نملك لإسعاد غيرنا وبناء مجتمعات صالحة قائمة على الطُهر والفضيلة.