رحيل العلماء يعيد للأذهان ذكريات عام الحزن، فموتهم منذر موقظ للغيورين بالانتباه لما على الأمة من مسؤولية إزاء علمائها، وفضلائها، وخيارها، حيث إنهم رحلوا دون أن يطلبوا جزاء ولا شكوراً.
د. يوسف القرضاوي.. إمام العصر الحديث
ولد الإمام د. يوسف عبدالله القرضاوي في صفط تراب بالمحلة الكبري محافظة الغربية بمصر، في 9 سبتمبر 1926م، وحفظ القرآن الكريم صغيراً، وتفوق في الثانوية، وكان ترتيبه الثاني على المملكة المصرية، وتخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ومنها حصل على العالمية عام 1953م، وبعدها حصل على الدكتوراة من كلية أصول الدين عام 1973م.
سافر إلى دولة قطر وعمل فيها مديراً للمعهد الديني الثانوي، وبعد استقراره هناك حصل القرضاوي على الجنسية القطرية، وفي عام 1977م تولى تأسيس وعمادة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر، وظل عميداً لها إلى نهاية عام 1990م، كما أصبح مديراً لمركز بحوث السُّنة والسيرة النبوية بجامعة قطر، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي كان أحد مؤسسيه، وأحد علماء أهل السُّنة البارزين في العصر الحديث الذي ترك بصمات عظيمة، وله العديد من المؤلفات والدواوين الشعرية.
تعرف القرضاوي إلى دعوة الإخوان المسلمين في وقت مبكر، وأصبح من قياداتها المعروفين قبل أن يسخّر جهده ووقته وعلمه لأمته وقضاياها بشكل كامل حتى أضحى من أهم العلماء الذين ارتكزت عليهم قضايا الأمة في العصر الحديث وأصبح له بصمات في العديد من المجالات التي تخص الأمة الإسلامية وشؤونها.
اعتقل القرضاوي بمصر أكثر من مرة سواء عام 1948م وقت أن كان طالباً في الثانوية الأزهرية بعد حل جماعة الإخوان، أو أثناء الصدام مع عبدالناصر في يناير 1954م، ثم في نوفمبر من نفس العام حيث قضى في السجن مدة تقترب من العامين، قبل أن يخرج ويسافر لقطر، وأثناء إجازته بمصر عام 1963م تم القبض عليه مع عدد من العلماء بتهمة العمل على قلب نظام الحكم قبل أن يطلق سراحه دون محاكمة.
حصل على العديد من الجوائز العالمية، واختير كشخصية مؤثرة عامة في العديد من السنوات لتأثيره في القضايا التي تخص الأمة الإسلامية.
ظل الشيخ القرضاوي نجماً يضيء في سماء الهداية حتى رحل يوم الإثنين 30 صفر 1444هـ/ 26 سبتمبر 2022م في الدوحة، عن عمر ناهز 96 عاماً، وقد شيعه آلاف المحبين وكثير من الوفود الرسمية(1).
عبدالعزيز المشاري.. وتفانيه من أجل الأسرى الكويتيين
كان الغزو العراقي للكويت فاصلاً في حياته؛ حيث انصب اهتمامه على البحث عن إخوانه الأسرى الكويتيين بأيدي النظام العراقي البائد، ولم تنم عيناه حتى شكل جمعية من أجل ذلك في سبيل عودة الجميع لوطنهم.
إنه عبدالعزيز ثنيان عبد المحسن المشاري الذي عشق تراب وطنه منذ نعومة أظفاره، ولد عام 1944م، وتخرج في جامعة الكويت، وعمل فترة قبل التخرج بالتدريس، ثم التحق بعد تخرجه بالعمل لفترة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، حرص خلالها على أن تكون له بصمات في الحياة الثقافية بالكويت.
أسهم في تأسيس عدد من الجمعيات، أبرزها جمعية أهالي الأسرى والمرتهنين لدى النظام العراقي التي تولى رئاستها، وجمعية اليرموك التعاونية التي كان أول رئيس لمجلس إدارتها عام 1988م، ثم أصبح مختاراً لمنطقة اليرموك، وأسهم في أن تصبح أول منطقة صحية بالكويت بفضل نشاطه، وكان من المختارين المتميزين بالعمل الدؤوب لخدمة مناطقهم وأهاليها.
كان، رحمه الله تعالى، ذا نشاط متقد في العمل التطوعي، وصاحب مشاركات في أغلب الفعاليات التطوعية والخيرية تجعل الشباب يعيدون حساباتهم في العمل التطوعي، اقتداء به.
ظل عاملاً نشيطاً لا يكل ولا يمل في خدمة العمل التطوعي حتى سكن جسده وصعدت روحه لربها يوم 14 سبتمبر 2021م(2).
فرج النجار.. والهروب الأسطوري
ولد فرج إبراهيم شحاتة النجار في قرية ميت خاقان مركز شبين الكوم محافظة المنوفية بمصر، في 22 أبريل 1923م، وحفظ الكثير من القرآن وتعرف إلى الطرق الصوفية التي لمس فيها البعد عن العقيدة وتعاليم الدين الصحيحة؛ ما دفعه ذلك للانتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين.
كان لانتسابه للإخوان السبب في انتقاله إلى الإسماعيلية للعمل في مدرسة حراء التابعة للإخوان، وهناك تعرف إلى يوسف طلعت الذي ضمه لـ«النظام الخاص» في بداية الأربعينيات، وحينما عاد لبلده شبين الكوم وضع نواة «النظام الخاص» ليشكل قلقاً للمستعمر البريطاني في محافظته.
وقام ببعض العمليات الفدائية في المنوفية ضد الجيش الإنجليزي بمدرسة الصنايع في شبين؛ ما أجبر الجيش الإنجليزي على الانسحاب إلى جبل باغوث في قويسنا، لكن قام مع بعض رفاقه بتفجير مبنى الحراسة؛ ما دفع الإنجليز لمغادرة المنوفية.
ومن الأعمال أيضاً التي قام بها أنه انتسب بتكليف من «النظام الخاص» إلى الحزب الشيوعي في محافظة الغربية، وترقى فيه إلى أن أصبح الرجل الثاني فيه (سكرتير الحزب الشيوعي بالغربية) على مستوى وجه بحري، وساهم بدور فعال في إفشال محاولة اغتيال حسن البنا التي حاول أن ينفذها الحزب بتوجيه من الاتحاد السوفييتي أثناء تواجده في طنطا عام 1947م.
كان النجار حارساً خاصا للبنا في بعض الأوقات، وكان قائماً على عملية تأمينه خاصة بعد حل الجماعة واعتقال قادتها.
بعد ثورة يوليو 1952م، اعتقل النجار في يناير 1954م بالسجن الحربي ثم العامرية، وخرج في مارس 1954م، وبعد «حادثة المنشية»، في أكتوبر 1954م، هرب النجار ولم يستطع نظام عبدالناصر القبض عليه؛ حيث ظل متخفياً حتى وفاة عبدالناصر لما يقرب من 20 عاماً.
بعد وفاة عبدالناصر وتولي السادات، أصدر قراراً بالعفو الشامل عن كل الإخوان المحكومين أمام محكمة الثورة ما عدا فرج النجار، وظلَّ كذلك حتى عفا عنه السادات في يوليو 1975م.
بعد العفو عنه والاستقرار عمل على إعادة هيكلة العمل الإسلامي في محافظته المنوفية.
وفي عام 2000م رشحه الإخوان في انتخابات مجلس الشعب؛ مما أحدث ضجة كبيرة في الوسط السياسي، ومورست ضغوط شديدة في سبيل ألا يفوز بالانتخابات.
ظل النجار وسط إخوانه يتكلم عن تاريخ العمل الإسلامي في فترات الحكم الملكي ثم الجمهوري حتى توفاه الله تعالى في 19 رمضان 1430هـ/ 9 سبتمبر 2009م، وشيعته الجموع الغفيرة ببلدته(3).
______________________________________________
(1) موقع الشيخ القرضاوي: السيرة الذاتية.
(2) الكويت تودّع عبدالعزيز المشاري: القبس، 15 سبتمبر 2021م.
(3) فرج النجار المطار الحر: إخوان ويكي، 11 فبراير 2014م.