لا شك أن الإمبريالية الفرنسية أدت الدور الأبرز في تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي غير المستقر في غرب أفريقيا، فتاريخياً ترك الحكم الاستعماري الفرنسي في المنطقة، إلى جانب الاستغلال الاقتصادي ونهب الموارد الطبيعية، تأثيراً سلبياً مدمراً على دول غرب أفريقيا.
في هذه السطور، نحاول أن نناقش العوامل المختلفة التي ساهمت وتساهم في الفقر المدقع وعدم الاستقرار في المنطقة، ونقوم بتسليط الضوء على عواقب التدخل الفرنسي في الشؤون السياسية، والقمع الثقافي، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والنزاعات المسلحة، وتبعات ما بعد الاستعمار، ونعمل على استكشاف آفاق التغيير والتعاون الإقليمي، حيث تسعى منطقة غرب أفريقيا جاهدة إلى الانعتاق من موروثات الإمبريالية الفرنسية والسعي في طريق الاستقرار والتنمية.
يعود الحكم الاستعماري الفرنسي في غرب أفريقيا إلى القرن السابع عشر عندما أنشأ الفرنسيون مجموعة من المراكز التجارية على طول الساحل الأفريقي الغربي، وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، وسعت فرنسا سيطرتها على مناطق شاسعة، وفرضت حكماً استعمارياً مباشراً على العديد من دول غرب أفريقيا، وغالباً ما كان هذا الاستعمار وحشياً، حيث استخدم الفرنسيون القوة العسكرية المفرطة والغاشمة لإخضاع السكان المحليين واستغلال مواردهم.
التدافع الأوروبي من أجل تقسيم أفريقيا
خلال التدافع من أجل أفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، قامت القوى الاستعمارية الأوروبية، وفي القلب منها فرنسا، بتقسيم القارة من أجل مصالحها الاقتصادية والسياسية، فتم تقسيم غرب أفريقيا بين العديد من القوى الأوروبية التي ضمت فرنسا وبريطانيا والبرتغال، وقد تجاهل هذا التقسيم الاستعماري التعسفي التنوع العرقي والثقافي واللغوي للمنطقة، وزرع بذور النزاعات وعدم الاستقرار في أنحاء القارة.
وكان لهذا الاستعمار الفرنسي تأثير عميق ودائم على مجتمعات غرب أفريقيا، فقد عطلت النظم الاجتماعية والاقتصادية التقليدية، وفرضت هيكلاً إدارياً أجنبياً غريباً على البيئة، ومعادياً لأصحاب الأرض، ليخدم فقط المصالح الفرنسية، وقد أدى ذلك إلى تهميش المجتمعات المحلية وتآكل أنظمة الحكم الأصلية، وأدى الاستعمار الفرنسي أيضاً إلى تغييرات ثقافية كبيرة، عندما اضطرت مجتمعات غرب أفريقيا إلى تبني العادات والتقاليد الفرنسية.
الاستغلال الاقتصادي واستخراج الموارد
1- نهب الموارد الطبيعية: كانت الإمبريالية الفرنسية في غرب أفريقيا، وما زالت، مدفوعة بدوافع اقتصادية، تهدف إلى استغلال الموارد الطبيعية الهائلة في المنطقة، وسعت فرنسا إلى استخراج سلع ثمينة مثل المطاط والأخشاب والمعادن، وإثراء نفسها على حساب جوع وفاقة وتخلف شعوب دول غرب أفريقيا، وقد سيطر المستثمرون والشركات الفرنسية على القطاعات الرئيسة بنسب لا تقل عن 90%، وما زالوا يمارسون سيطرة وقحة على استخراج ونهب هذه الموارد.
2- العلاقات التجارية غير المتكافئة: أقامت فرنسا علاقات تجارية غير متكافئة مع دول غرب أفريقيا، تضمن استمرار اعتماد تلك الأسواق على الأسواق والصناعات الفرنسية، وقد تمتعت الشركات الفرنسية بمعاملة تفضيلية، بينما تم خنق الصناعات المحلية أو تدميرها، وجعلت هذه التبعية الاقتصادية دول غرب أفريقيا عرضة للتقلبات في الأسواق العالمية، وأعاقت قدرتها على تطوير اقتصادات قائمة على الاكتفاء الذاتي.
وغالباً ما أعطت السياسات الاقتصادية الفرنسية الأولوية لمصالح القوة الاستعمارية بدلاً من تنمية دول غرب أفريقيا، وقد ركزت استثمارات البنية التحتية بشكل أساسي على تسهيل استخراج الموارد، وإهمال القطاعات الحيوية مثل التعليم والرعاية الصحية والزراعة، أدى هذا النقص في الاستثمار إلى إعاقة تنمية غرب أفريقيا وترك إرثاً من التخلف الشديد والتفاوت الاقتصادي الهائل.
التدخل الفرنسي في سياسة غرب أفريقيا
من المعروف أن فرنسا تتدخل في سياسات مستعمراتها السابقة في غرب أفريقيا بشكل سافر ومفضوح، وغالباً ما تدعم القادة الذين يخدمون مصالحها، وقد أدى هذا التدخل إلى تقويض العمليات الديمقراطية لهذه الدول؛ مما أدى إلى خنق ظهور بدائل سياسية حقيقية وإدامة عدم الاستقرار السياسي.
وأظهرت فرنسا عبر التاريخ استعداداً مبالغاً فيه لدعم الأنظمة الاستبدادية في غرب أفريقيا للحفاظ على نفوذها وتأمين نهب الموارد والثروات الأفريقية، وقد ساهم هذا الدعم للدكتاتوريين في القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان والاستياء الشعبي؛ مما أدى إلى الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار، ومنها:
– في الستينيات، دعمت فرنسا الدكتاتورية العسكرية لـ«هوفويت بوانيي» في كوت ديفوار، على الرغم من انتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع.
– في السبعينيات، دعمت فرنسا نظام «جان بيديل بوكاسا» القمعي في جمهورية أفريقيا الوسطى، الذي كان مسؤولاً عن مقتل الآلاف من مواطنيها.
– في الثمانينيات، دعمت فرنسا المجلس العسكري لـ«موسى تراوري» في مالي، الذي حكم البلاد لمدة 22 عاماً.
– في التسعينيات، دعمت فرنسا حكومة «بليز كومباوري» في بوركينا فاسو، التي كانت مسؤولة عن اغتيال «توماس سانكارا»، الزعيم الشعبي المؤيد للديمقراطية.
– في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، دعمت فرنسا حكومة «تيودورو أوبيانغ نجويما مباسوجو» في غينيا الاستوائية، التي تعد إحدى أكثر الدول فساداً في العالم.
– في عام 2010م، دعمت فرنسا حكومة «الحسن واتارا» في كوت ديفوار، التي وصلت إلى السلطة بعد حرب أهلية دامية.
القمع الثقافي
1- فرض اللغة والثقافة الفرنسية: جلب الاستعمار الفرنسي معه فرض اللغة الفرنسية والمعايير الثقافية على مجتمعات غرب أفريقيا، وقد طغى هذا الاستيعاب اللغوي والثقافي على اللغات والتقاليد المحلية؛ مما ساهم في تآكل الهوية الثقافية لشعب غرب أفريقيا.
2- فقدان اللغات والتقاليد الأصلية للسكان: أصبحت «الفرنسية» اللغة المهيمنة في الإدارة والتعليم، وعانت لغات السكان الأصليين من التدهور، مع تزايد فقدان الأجيال الشابة للطلاقة في لغتهم الأم، وفقدان اللغة هذا يعني أيضاً فقدان المعرفة الثقافية، حيث أصبح الوصول إلى تقاليد السكان الأصليين والتاريخ الشفوي أقل سهولة، وأصبحت ذاكرة وهوية هذه الشعوب معرضة لخطر النسيان.
التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والفقر
ساهم النهب والإمبريالية الفرنسية بشكل كبير في عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والفقر المدقع في غرب أفريقيا، وأدى استخراج ونهب الموارد القيمة من قبل القوى الاستعمارية الفرنسية إلى تركيز فتات ما تبقى من النهب الاستعماري في أيدي عدد قليل من النخب الخائنة، في حين يعاني غالبية السكان من الفقر والجوع ونقص الفرص الاقتصادية.
علاوة على ذلك، فرض الفرنسيون نظاماً يعطي الأولوية للتعليم والرعاية الصحية للنخب الحاكمة، متجاهلاً غالبية السكان، ونتيجة لذلك لا تزال معدلات الأمية مرتفعة، وخدمات الرعاية الصحية الأساسية غالباً غير كافية؛ مما يؤدي إلى استمرار دورة الفقر وعدم المساواة.
وعلى الرغم من حصولها على الاستقلال، لا تزال دول غرب أفريقيا تكافح الفقر المدقع المستمر والظلم وعدم المساواة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الممارسات الاستغلالية للإمبريالية الفرنسية، وقد أدى استخراج الموارد والعلاقات التجارية غير المتكافئة إلى قتل التنمية الاقتصادية للمنطقة؛ مما ترك العديد من مواطني غرب أفريقيا محاصرين في فقر وجوع، ويكافحون من أجل تلبية الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية.
الصراعات المسلحة وعدم الاستقرار
1- دعم الجماعات المتمردة: اتُّهمت فرنسا بدعم الجماعات المتمردة في غرب أفريقيا، مثل الحركة الوطنية لتحرير أزواد في مالي، وحركة التغيير الديمقراطي في جمهورية أفريقيا الوسطى، وكانت هذه الجماعات مسؤولة عن العنف وعدم الاستقرار في المنطقة.
2- التدخل العسكري السافر: تدخلت فرنسا عسكرياً في غرب أفريقيا، مثل كوت ديفوار في عام 2002م، ومالي في عام 2013م، وغالباً ما تم انتقاد هذه التدخلات لأنها أدت إلى تفاقم الصراع وخلق مشكلات جديدة.
3- تسليح وتدريب قوات المستبدين: مثل الجيش المالي، وقد اتُّهمت هذه القوات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ولم تتمكن في كثير من الأحيان من منع العنف.
لا تزال الآثار الضارة للنهب والإمبريالية الفرنسية واضحة في عدم الاستقرار الذي تواجهه منطقة غرب أفريقيا اليوم، وقد ساهم السياق التاريخي، والاستغلال الاقتصادي، والتلاعب السياسي، والقمع الثقافي، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والنزاعات المسلحة، وتبعات ما بعد الاستعمار، في التحديات التي تواجهها المنطقة.
ومع ذلك، هناك أمل في مستقبل أفضل، حيث تكتسب حركات إنهاء الاستعمار والاستغلال، والتكامل الإقليمي والتعاون، زخماً مستمراً، ومن خلال الجهود المتضافرة والالتزام بمعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار يمكن لدول غرب أفريقيا أن تشرع في سلوك طريق التنمية المستدامة، والحصول على الاستقلال الحقيقي وتقرير المصير.