«إن القاهرة التاريخية تتعرض لتدمير شامل لم تشهده خلال 14 قرناً، ولا خلال أي من فترات الاحتلال الأجنبي»، بهذه الكلمات وأمثالها عبر أثريون ومعماريون ونخب مصرية وأحزاب في بيانات عدة، منذ مطلع سبتمبر الجاري، عن رفض قطاع واسع من المصريين ما يحدث في آثار القاهرة الإسلامية، التي يطلق عليها «القاهرة التاريخية»، من تخريب وعبث، رغم أنها أحد مواقع التراث العالمي، بحسب «اليونسكو» منذ عام 1979م.
وفي السياق ذاته، أكد شيخ الأزهر الإمام الأكبر د. أحمد الطيب، في بيان مقتضب، أهمية الحفاظ على المساجد التاريخية والمعالم التراثية باعتبارها جزءاً من الهوية المصرية والحضارة الإنسانية.
استقالة و4 انسحابات وبيانات احتجاجية وبلاغات وملاحقة قضائية
وبدأت عمليات الهدم والإزالة في يوليو 2020م، وتجددت في أغسطس الماضي، وشملت منطقة «القرافة» الشهيرة والمعروفة بـ«مقابر المماليك»، و«السيدة نفيسة»، و«الإمام الشافعي»، و«السيدة عائشة»، التي تضم آلاف الآثار الإسلامية ومقابر تضم رفات شخصيات إسلامية وتاريخية وثقافية، منها مقبرة الإمام وَرش، صاحب رواية ورش عن نافع لقراءة القرآن.
علامات استفهام وتعجب!
من جانبه، يوضح المؤرخ كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، د. مجدي شاكر، في حديث لـ«المجتمع»، أن هناك 3 قوانين تحكم منطقة القاهرة التاريخية، وهي قانون (117) لسنة 1983م الخاصة بالآثار، وقانون (142) لسنة 2006م بشأن المحليات والمباني الآيلة للسقوط، وقانون (119) لسنة 2008م بشأن التنسيق الحضاري؛ ما جعل آثار وشواهد المنطقة «دمها مفرق»، بحسب وصفه، بين المؤسسات الحكومية؛ ما يستدعي إصدار تشريع جديد جامع.
ويضيف شاكر أن أعمال الإزالة والهدم التي تتم اعتدت على حق اللجنة المشكَّلة من رئيس الجمهورية لتقييم الموقف في القاهرة التاريخية؛ ما جعل هناك رفضاً واسعاً بين الأثريين والمختصين لما يحدث، مع علامات استفهام وتعجب من قدرة البعض على تجاوز اللجنة الرئاسية!
د. شاكر: هناك علامات استفهام وتعجب حول ما يحدث من هدم
ويشير د. شاكر إلى أن النظرة الاقتصادية لتلك المنطقة التاريخية بآثارها الإسلامية وشواهدها ومقابرها تجعلها ذات عائد اقتصادي مميز للبلد في وقت هي تحتاج فيه كل نقد أجنبي، وبالتالي يجب وقف المخطط الجاري بأقصى سرعة وتشكيل لجنة لتطوير المنطقة وتهيئتها لتكون منطقة جذب سياحي ديني.
مشروع «القاهرة 2050».. السبب
من جانبه، يرى المعماري والباحث العمراني إبراهيم عز الدين، في حديث لـ«المجتمع»، أن مشروع «القاهرة 2050» هو الدافع الرئيس وراء كل الإزالات التي تحدث في القاهرة التاريخية بغية تحويلها إلى مدينة أعمال، موضحاً أن ذلك مخطط قديم من عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وكان وراءه الهيئة العامة للتخطيط العمراني التي كان يرأسها في ذاك الوقت د. مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري الحالي، وهو الأمر الذي يفسر دفاع الحكومة عن المشروع بقوة.
ويشير عز الدين إلى أن هذا المخطط لم يقم بوضع آلية للتعامل مع طُرزها المعمارية التي تعود إلى واحد من أهم العصور العمرانية والمعمارية وهو العصر المملوكي، إنما اكتفى المخطط بنصه على نقل مقابر القاهرة؛ أمواتاً وأحياء ومباني، إلى أطراف المدينة، وتخطيط حدائق ومساحات خضراء مكانها.
عز الدين: مشروع «القاهرة 2050» سبب الأزمة الراهنة
وحول سبل الحل، يطالب عز الدين بوقف ما يحدث، والاستفادة من التجارب الدولية مثل مقبرة حديقة هامبورج الخاصة، حيث تم استغلال هذه المقبرة عبر جعلها حديقة كبيرة للتنزه والاستجمام ومكاناً للتأمل والتفكير، وهو ما يمكن تكراره بمصر؛ الأمر من شأنه أن يفيد ملف السياحة.
ويطالب عز الدين، كذلك، بالعمل على ترميم المقابر المنهارة وإعادتها لطرازها المعماري الذي كانت عليه، وترميم الخطوط العربية والنقوش والزخارف اليدوية الموجودة على شواهد القبور، وتوثيق هذه المعالم في قوائم التراث.
متحف القرافة كحل بديل
ويؤكد الأكاديمي المتخصص في الآثار د. حسين دقيل، في حديثه لـ«المجتمع»، أن استمرار الهدم والعبث بمنطقة القاهرة التاريخية مخالف للدستور الذي يجبر الدولة على حماية آثارها، ويحظر المساس بها.
ويقترح دقيل لجوء المختصين إلى القضاء والتظلم القانوني لوقف الهدم، بالتوازي مع عقد لجان مختصة لدراسة إنشاء متحف مفتوح في ذات المكان بعد عمليات ترميم بسيطة، واستمرار التوثيق الفردي الذي قام به فنانون في الأيام الأخيرة.
د. دقيل: أقترح إنشاء متحف مفتوح.. والملاحقة القضائية
ويدعو الأكاديمي المتخصص في الآثار إلى إنشاء متحف يسمي «متحف القرافة»، يحتوي على كل النقوش والشواهد واللوحات الرخامية وغيرها، مع معارض مصورة ومرئية لما يميز المكان، كي يستمر الوعي، مطالباً باستمرار عمل المبادرات الأثرية في الحفاظ على التراث هناك لحين عمل المتحف.
حراك أثري وثقافي لا يتوقف
ميدانياً، تقدم د. أيمن ونس، أستاذ التصميم العمراني والبيئي رئيس اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز، باستقالة مسببة احتجاجاً على ما يحدث، قبل أن يعلقها لما قال إنه: «استغلال سياسي من المعارضين لنصها»، كما انسحب من ذات اللجنة 4 أعضاء، وأصدرت عدة جهات بيانات رافضة لما يحدث من هدم، أبرزها جمعية المعماريين المصريين.
وكشفت مؤسسة حرية الفكر والتعبير (مؤسسة حقوقية مستقلة) عن تبنيها المسار القضائي، حيث تقدمت بدعوى قضائية لوقف ما يحدث من هدم إلى القضاء الإداري، كما تقدمت ببلاغ للنائب العام ضد المسؤولين المتورطين وللمطالبة بفرض الحراسة اللازمة على الآثار.
وأعلنت مؤسسة شواهد مصر الأثرية عن مبادرة «توثيق وإنقاذ الآثار غير المسجلة» في المنطقة، بغرض حصر الآثار غير المسجلة التي تعرضت للسرقة، مؤكدة في بيان لها أن هناك سرقات جنونية منتشرة في قرافات القاهرة التاريخية.
محاولة من بعض المتطوعين لتوثيق التراث قبل إزالته
توثيق للحظة بدء الجرافات في هدم المنطقة التاريخية تصوير د. مصطفي الصادق الباحث الأثري