لا شك أننا كأمة إسلامية نعيش في واقع تاريخي صعب، إذ تعاني مجتمعاتنا المسلمة من أزمات وتحديات إنسانية، ولا يكاد يخلو قُطر من أقطار العالم الإسلامي من تلكم التحديات والمظالم التي اعترت عليهم بشكل أو بآخر، وقد يصعب الإحاطة بحجمها الحقيقي لتباعدنا عنهم أو تعوّدنا باللامبالاة تجاههم.
وعند استحضار واقع الأمة قد يلزم على كل مسلم مراجعة هويته وإسلامه الذي ربطه بمجتمعه وإخوانه في الدين، كما قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، ليتكاتف ويتعاضد معاً في مواجهة أي خطورة.
وحينها قد يجد هو نفسه أمام تساؤلات محورية حول ما تعنيه بنية هذه الكلمة «الأمة» التي تجمع منتسبيها تحتها كمفهوم، وتحتوي حوالي ملياري إنسان من بني آدم، كمبدأ التكاتف والتعاضد، كما قال النبي ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، لا بعكس الواقع المؤلم.
بدعوة كريمة من أحد الأصدقاء حضرت، مؤخراً، ملتقى اجتمع فيه خبراء واستشاريون من أكثر من 15 دولة، والكل قدّم كلمات وأوراقاً لتبرز تحديات تواجهها الأسرة المسلمة في ظل العولمة، أوراقاً وأطروحات تحت عناوين شتى؛ كتدمير الغرب الممنهج للأسرة بأفكار غربية كالحركة النسوية، وتأثر المجتمع المسلم بأخلاق فاسدة، وغياب اهتمام الزواج المبكر، وإفساد التعليم الأسري والمجتمعي، وخطورة إدمان الوالدين بالإنترنت، وخطر الإنترنت على الأطفال، والأمن السيبراني ودوره في هدم الأسرة المسلمة وتفكيكها.. وغيرها من الخطورة التي تهدد الأسرة المسلمة والقيم الإسلامية، وذلك بصدد الدفاع عن القيم الإسلامية وحماية الأطفال من الهجوم الغربي.
نعم، أنا مع الفكر تماماً، وأن ذلك من المهمات المثيرة للاهتمام والنقاش لنصنع مستقبلاً أفضل للأمة مما هي عليه اليوم، إلا أنني وجدت نفسي في هذا المقام ألاحظ وجهاً آخر للأمر، وهو إنفاق مئات الآلاف لتنظيم ندوات ومؤتمرات حول موضوع الأسرة العربية والإسلامية، مع تغافل كامل من الحديث عن الهوية ودورها في مواجهة تلك الأخطار.
أعتقد أنه من أهم ما يقوم به المسلم اليوم مراجعة الهوية الإسلامية لنفسه ولمجتمعه، وفهم الإسلام الصحيح بواجبات وحقوق بين إخوانه، والتكاتف الجماعي في دفع الضرر عن عامة المسلمين؛ وأن على نخبة المسلمين تقدير تحديات تواجهها هوية هذه الأمة بجميع مكوناتها؛ مادياً ومعنوياً، وتحريك الكتَّاب وأصحاب الأقلام والمؤثرين نحو حملة توعوية لإعادة أساس الهوية الجامعة في قلوب الأمة.
وبهذا الصدد أطرح لكم ما أراه، مركزاً في عرض حالة مسلمي الإيغور في تركستان الشرقية كنموذج للهوية الإسلامية المهددة بالمحو.
أولاً: ضرورة مراجعة الهوية الإسلامية وطرق الحفاظ عليها:
كما أشرنا أن الأمة الإسلامية تعاني من تحديات ضياع الهوية بمعنى الكلمة، والحرب الفكرية خاصة في الأقاليم الواقعة تحت الاحتلال، أو المجتمعات التي نسميها بالخطأ المتعمد بـ«الأقليات المسلمة»، ها نحن نشهد واقع مسلمي تركستان الشرقية، يعيشون في أشد المحن والابتلاءات، وهويتهم تتعرض للحرب علناً أمام عيوننا، يبرز دور الإعلام في الحفاظ على الهوية الإسلامية، والارتقاء بالحياة الاجتماعية، وتوجيه الرأي العام.
العمل على توحيد فكر الأمة، وخلق التآلف والتعارف بينها، والتركيز على معاني التراحم والأخوة، وعدم التشهير وتتبع السقطات بين إعلام دول العالم الإسلام.
الدفاع عن مقدسات الأمة، وربط قضايا العصر بالعقيدة، ومواجهة الحملات المعادية التي تهدف لتشويه صورة الإسلام، ونشر صورة الإسلام السمحة في الدول غير المسلمة، ودور المؤسسة التعليمية في الحفاظ على الهوية الإسلامية، هنالك العديد من المؤسسات التعليمية والتربوية التي يمر بها الفرد، بدءاً من الأسرة وانتقالًا إلى المدرسة والجامعة والمساجد والمكتبات العامة والنوادي والمراكز الثقافية، وانتهاءً بوسائل الإعلام، وتعد المدارس والجامعات أهم المؤسسات التعليمية والتربوية.
كما دفعني إلى كتابة هذه السطور حالة الصمت في كثير من المجتمعات الإسلامية عما يحدث للمسلمين في أماكن شتى، كقضية تركستان الشرقية وكشمير والروهنجيا.
نادراً أن يتبادر اليوم إلى أذهان الكثير أولئك المضطهدون في تركستان الشرقية وتركيبية السكان المسلمين وبنية الأسرة التركستانية وأهم إشكالياتها الحالية مع الصين التي احتلت هذا البلد، طالما نتحدث عن موضوع الهوية والأسرة المسلمة ومشكلاتها وطرق حلولها من مختلف الدول العربية والإسلامية؛ بالطبع لا بد من كلمة حول بنية الأسرة التركستانية ومشكلاتها الحالية، والحديث عن الشعب الإيغوري المسلم المعزول، بل المسجون مطلقًا، في بلدهم تركستان الشرقية.
ثانياً: بنية الأسرة التركستانية وإشكالياتها الحالية:
أما مسلمو الإيغور والمسلمون تحت الاحتلال الغاشم ليس لدينا حرية اختيار ولا ينطبق على مجتمعنا أي شيء مما يقترح الخبراء، بل تحت سياط سلطات ظالمة، تارة تقنن قسوتها بـ«سياسة إلحاد المجتمع»، وبــ«سياسة تصيين الإسلام واشتراكيته»، وأخرى بزج الملايين المسلمين وبالأخص نخب الشعب في معسكرات إعادة التأهيل السياسية، والتي تعودتم سماعها بالأرقام الهائلة.
وعن بنية الأسرة التركستانية قد نلاحظ أنها تتسم بهوية سياسية وإسلامية كأية هوية، يتمسكون بعناصرها الأربعة الأهم:
1- اللغة الأم الإيغورية، إحدى لهجات اللغة التركية، التي تحاول الصين منعها في المدارس ومحوها على العقود.
2- ديانة الإسلام، بحنفية المذهب في أشكال العبادات والمعاملات الأسرية كالزواج والتزويج والمعاملاتية وماتوريدية العقيدة كرؤى والتفكير الإسلامي، التي تفرض الصين تغليب فكرة الإلحاد والكونفوشوسية والماركسية والماوية عليها.
3- الهندسة المعمارية في إعمار المدن والمساجد والمراكز الاجتماعية، التي تتسم بخاصية الثقافة وأصول الحضارة العريقة، التي تحارب عليها الصين بزعم توحيد المظاهر التركستانية بأزياء صينية.
4- المظاهر المعيشية كأزياء الألبسة وتنظيم الأنشطة اليومية والحرف التي تميز التركستانيين عن الهان الصينيين بكل أشكال الحياة والفعاليات الجماعية.
تجمع أي هوية، عربية أو غير عربية، أفرادها تحت هذه العناصر الجامعة الأربعة، فسر مداومة النضال التركستاني واستمرار بقاء الهوية الإسلامية في تركستان الشرقية يبيت خلف هذا الصراع السجالي والكفاح.
ومن الجدير بالانتباه هنا تمييز الفرق بين الثقافة الصينية والتركستانية، بين الهوية الصينية والتركستانية، هنا الهوية التركستانية تختلف تمامًا عن الصين الشيوعية والمجتمع الصيني الملحد، بل وتتميز بالتماسك القوي بالهوية الإسلامية التي تتجسد في العناصر المذكورة أعلاها بمعنى الكلمة، بل قد يعتبر جهودهم بأحسن نموذج الكفاح من الحفاظ على الأسرة المسلمة والهوية، والمصابرة على الكفاح من أجلها.
ثالثاً: التحديات والمشكلات الأسرية الحالية في تركستان الشرقية:
تتعرض الأسرة التركستانية للتهديدات الخطيرة من الطرف الصيني باعتبارها محتلة ومسيطرة على الإقليم، هي تحارب القيم الأسرية في تركستان الشرقية بكل الجوانب، لا يوجد إطلاقًا أي نموذج في العالم للحرب على الإسلام والمسلمين والمعالم الإسلامية مثل ما يحدث في تركستان الشرقية.
كما أعلنت عدة دول أن إجراءات السلطات الصينية على تدمير البنية الأساسية لثقافة التركستانيين ومسلمي الإيغور ومحو حضاراتهم التاريخية؛ أنها إبادة جماعية، والجرائم ضد الإنسانية.
وأما أهم الأخطار التي تواجه الأسرة المسلمة في تركستان الشرقية يمكن إيجازها باختصار شديد كالتالي:
1- سياسة الأسرة التوأمة؛ تعني لزوم مشاركة الأسرة التركستانية حياتها اليومية مع الصينيين ليلاً ونهاراً، وهذه السياسة تنفذ بقسوة من كوادر الحزب الشيوعي الصيني الإرهابي؛ يرفعون تقريراً كاملاً لجميع تحركات وتوجهات لأفراد الأسرة.
2- الزواج القسري للنساء التركستانيات مع الهان الصينيين، وحرية الاختيار للمستوطنين الصينيين تماماً (هم الملحدون كما تعلمون) دون التركستانيات، والثقافات مختلفة والإسلام لن يسمح للمسلمة بالزواج من ملحد، ولا يمكن تدخل الأولياء في الأمر، ولكنهن يزوجهن الحزب الشيوعي عنوة.
3- حظر التقاليد الاجتماعية والإسلامية التي تتعلق بإنشاء الأسرة؛ النكاح والطلاق والميراث وسياسة الطفل الواحد والإنجاب كلها بيد السلطات دون استثناء، هناك بند خاص في الدستور في أن منعًا حتماً لتدخل الدين في هذه الشؤون الخمسة، صدرت في عام 2003م.
4- حظر التعليم الإسلامي بالكامل سواء في الأسرة أو في المدرسة، فالأسرة مراقبة بكامل التقنيات الحديثة والأجهزة التجسسية من الطرف السلطات، هناك لوحات الشوارع تهدد المارين بمخالفات قانونية بالسجن والاعتقالات، وحتى صدرت السلطات بنودًا في حظر ممارسة أنشطة دينية.
وهكذا محظور كل شيء يمثل للهوية الإسلامية والتماسك بها تعتبر جريمة إرهاب، ومحاولة الحفاظ على الثقافة والتقاليد والتفكير في بنية الأسرة يتهم صاحبها بالانفصالي والتطرف، يطول الكلام في موضوع المشكلات الأسرية في تركستان الشرقية، أغلبها سياسية ومن طرف احتلال السلطات الصينية.
خلاصة وتوصية
مسلمو الإيغور شعب مسلم معزول عن واقع الأمة الإسلامية، بل ومسجون تمامًا في عقر دارهم، تركستان الشرقية أرض إسلامية منذ باكورة التاريخ الإسلامي، وكانت قلعة جغرافية إسلامية في الشرق.
قد تكون هناك طرق ومحاولات في إصلاح الأسرة المسلمة، ويتحقق كما أراه بما يلي:
1- تجديد الوعي حول ضرورة الحفاظ على هويتنا الإسلامية، والالتزام بتوعية مجتمعاتنا العربية والإسلامية من لزوم لحمة الوحدة الإسلامية بكل معطياتها ومحتويات برامج التنمية الاجتماعية والثقافية التنموية، وبكل جوانبها.
2- شعور وجوب الدفاع عن عرض المسلمين وإحياء نخوة شباب العالم الإسلامي والعربي.
3- غرس معنى الإسلام بحقيقته في قلوب الأطفال والشباب وتربيتهم على الافتخار بالإسلام، ليحافظوا على الهوية الإسلامية وصالحين لاستمرارية خلافة الأرض ومصلحين لمجتمعهم وللإنسانية أجمع.