تقوم عملية التربية على دعامتين أساسيتين متكاملتين ومتداخلتين نسبياً؛ ألا وهما التربية الأبوية والتربية الأمومية.
والتربية مفهوم يتجاوز إشباع الحاجات المادية لصناعة شخصية الطفل روحياً وانفعالياً واجتماعياً وخلقياً، وهي عملية ليست بالسهلة وتحتاج لتضافر جهود الوالدين معاً، إلا أن الراصد للمشهد التربوي سيلمس بوضوح تراجع دور الأب أو تهميشه وحصره كممول للاحتياجات المادية للطفل سواء كانت حاجات أساسية أو تكميلية، وانعكاس هذا التهميش والتغييب على النشء.
النظام الأبوي
شنت الحركة النسوية خطة منظمة على ما أطلقت عليه المجتمع الأبوي، وفي قول آخر المجتمع الذكوري، والمقصود بذلك، حسب الفكر النسوي، ذلك المجتمع الذي يسود فيه الذكور ويفرضون هيمنتهم عليه، وفي نطاق الأسرة يسيطر الأب على القرار، بل على كافة مناحي الحياة، وتكون الزوجة والأولاد مجرد تابعين لذلك.
مثلت شخصية «السيد أحمد عبدالجواد» في ثلاثية نجيب محفوظ خاصة في الجزء الأول «بين القصرين» نموذجاً واضحاً وفجاً لهذا المجتمع الأبوي الذي وجهت النسوية العربية سهامها إليه، إلا أن ذلك انسحب على الدور التربوي للأب بوجه عام، فأصبحت فزاعة «سي السيد» تلاحق كل أب يحاول أن يكون له دور إيجابي في تربية أبنائه، خاصة إذا تعارضت رؤيته مع رؤية الأم في التربية.
الحقيقة أن الصورة النمطية التي قدمتها الدراما والسينما للأب بوجه عام صورة غير مشرفة، فهو إما متعنت مستبد، وإما غارق في نزواته وأناني، وإما بخيل طماع متلاعب.
لو أخذنا، مثلاً، مسألة دور الأب كولي للفتاة وقت زواجها، سنجد أن التشكيك يدور حول هذا الدور، فكثيراً ما يقدم الأب بصورة غير الأمين على مستقبل الفتاة الذي يسعى لتحقيق أطماع شخصية له من وراء زواجها، أو الدكتاتور المتسلط الذي يمارس الوصاية والتعنت ولا يأبه بمشاعر الأبناء الذي يمثل وجوده ورأيه مشكلة أو عقدة في العمل الدرامي.
بمعنى آخر؛ نجحت القوة الناعمة في السينما والدراما التي يقودها التيار النسوي والعلماني من الانتقاص من دور الأب وتشويه صورته؛ ومن ثم هز مكانته القديمة كركيزة صلبة وقوية في البناء الأسري.
هل هو «ATM»؟
تم اختزال دور الأب في العقل الجمعي على أنه مجرد آلة صرافة «ATM»، فهو المنوط به إشباع الحاجات المادية للأسرة، فالأب الصالح هو من يعمل لعدد طويل من الساعات أو يسافر ويغترب للحصول على المزيد من المال، والأب الصالح هو من يسلم هذا المال للأم التي تعرف مصلحة الأسرة أكثر منه، ويكتفي باستقطاع جزء من المال لأموره الشخصية؛ وبالتالي فالأب هو الممول في عقول الأبناء الذي عليه يقع عبء إشباع احتياجاتهم المادية المختلفة.
استسلم كثير من الآباء لهذه الفكرة طوعاً أو كرهاً، فالضغوط الاقتصادية تطحن كثيراً من الرجال، ولا تترك لهم مساحة للتفكير في الخروج من هذا القالب التعيس، وما يتبقى لهم من وقت بعد ذلك يفضلون قضاءه بعيداً عن مسؤولية البيت والأبناء، وما قد يمثله ذلك من ضغوط نفسية، فيهرب الأب إلى أصدقائه للحصول على بعض الترفيه.
هنا نحن أمام حالة أب لا يرغب في القيام بدوره ويقوم بتهميش نفسه ذاتياً، فإذا أضفنا لذلك المشاركة المتزايدة للمرأة في الإنفاق على الأسرة، وارتفاع معدل تطبيق المفهوم النسوي لتمكين المرأة؛ لوجدنا أن دور الأب أصبح في غاية الهشاشة والضعف.
آثار وخيمة
ليس الهدف من السطور السابقة هو وضع الأب في صورة الضحية التي تم التآمر عليها، فكثير من الآباء قد تنازلوا بصورة طوعية عن دورهم في حياة الأبناء، كهذا الوالد الذي طلق الأولاد عندما قام بتطليق أمهم.
وهذا الوالد الذي لا يشغله في الحياة إلا احتياجاته الشخصية، ولا يرغب في تحمل مسؤولية التربية، بل لعله لا يعرف عنها إلا النفقة، وبعضهم قد تخلى حتى عن دوره في الإنفاق.
كثير من الآباء متهمون بالفعل بعدم قدرتهم أن يكونوا آباء متوازنين، فأقصى ما يفهمه عن دوره في التربية هو إملاء التوجيهات الجافة وانتظار النتائج المبهرة، وبعضهم لا يعرف عن التقويم إلا الضرب والعنف الجسدي.
إن تغييب الأب في الظل أفسد كثيراً من الأبناء خاصة في مرحلة المراهقة، فالجموح الذي يعتري الأبناء في هذه المرحلة العمرية بحاجة لوازع قيمي داخلي ناتج من عملية التربية المشتركة منذ لحظة الميلاد، ووازع حازم خارجي يمثله الأب الذي يمثل حائط الصد بينهم وبين كثير من شطحات المراهقة.
كما أن الأبناء في هذه المرحلة بحاجة لوجود الرجل في حياتهم، فالفتى يبحث عن القدوة فيه، والفتاة تبحث عن الأمان من خلاله.
ليس المراهق فحسب، بل إن الدراسات التربوية تشير إلى أن الطفل الرضيع بحاجة للأب الذي يقدم له لوناً مختلفاً من اللعب عما تقدمه له الأم، والطفل الذي يفتقد والده يعاني من اليتم النفسي، وتملأ نفسه المرارة ويعاني من مشاعر النقص.
مسؤولية كبيرة
لهذا كله يقع على عاتق الأب مسؤولية كبيرة للنهوض بدوره التربوي، وعدم الخضوع لعملية التهميش أو الانتقاص من الدور المنوط به؛ «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (متفق عليه).
ولا شك أن اتفاق الأم والأب على تقسيم المهام والمسؤوليات التربوية الحل الأمثل الذي ينبغي أن يتم الحوار حوله، ومهما كانت المشكلات الخاصة بين الزوجين فلا ينبغي أن يستخدم الأولاد كأدوات في هذا الصراع؛ (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) (البقرة: 233).
فعلى الأب ألا يقبل بتغييبه قسراً عن المشهد التربوي لأسرته، وعليه أن يحاول دون يأس من استعادة دوره، وأن يحاول الاستماع بتفهم لما قد يوجه لهذه الدور من نقد، ويحاول تقييم هذا النقد بموضوعية وهو مستمسك بدوره.
وعلى الأم أن تدرك أن الضرر الذي يعود على طفلها من غياب دور الأب التربوي أكبر من الضرر الذي قد يعود عليه من بعض السلبيات التي قد تراها هي في أدائه لدوره التربوي.
وواجبها في هذه الحالة الحوار معه وتقديم النصيحة الرقيقة له بطريقة هادئة بعيدة عن الحدة أو الغلظة، بل إن واجبها يتعدى ذلك لمحاولة التقريب الجادة بين الأبناء والآباء؛ فتلتمس الأعذار للأب، وتفرض احترامه في حال غيابه، ولا تسمح للأولاد أن يتجاوز نقدهم لوالدهم حداً معيناً سواء في حضوره أو غيابه، وتدعو له أمامهم، وتبرز فضائله وترفع من ذكره، وتبث فيهم روح الفخر به والاعتداد بكونه والداً لهم، وبهذه الطريقة (إبراز الفضائل وتحجيم المثالب وتجاهلها) تقوم ببناء جسر قوي بين الأبناء والآباء يتحدى الضغوط المادية وضيق الوقت وثقافة تهميش الأب.