كان اهتمام المشروع النسوي في مراحله الأولى منصباً على إعادة تأويل القرآن الكريم مع استبعاد الحديث الشريف بحجج وذرائع مختلفة، لكن الحديث لاقى مؤخراً اهتماماً متزايداً من النسويات اللواتي درسن دور الحديث في تشكيل وضعية النساء الاجتماعية، وكيف تم توظيفه لأجل تعزيز هيمنة الرجال داخل الأسرة وفي المجال العام.
في السطور التالية نعرض بإيجاز الجدل النسوي حول الحديث الشريف، وكيفية تأويل الحديث من منظور نسوي.
إشكاليات التعامل مع الحديث
كان الاعتقاد السائد لدى الباحثات النسويات أن القرآن يمكن أن يشكل وحده الأساس الصلب الذي تستند إليه دعاوى المساواة والأفكار النسوية في المجتمعات الإٍسلامية، وعلى هذا انصبت جهود النسويات على مقاربة النص القرآني من منظور نسوي، تاركة الحديث -ومن ورائه الفقه- كما فعلت آمنة ودود، وأسما بارلاس، وغيرهما.
لكن الإعراض عن الحديث كان له أثر سلبي على المشروع النسوي وعلى فكرة المساواة التي يتم الترويج لها؛ لأن جل المسلمين ما زالوا ينظرون إلى الحديث بوصفه مرجعية ومصدراً ثانياً للتشريع، وهنا كان على النسويات العمل على إعادة تأويل الحديث جنباً إلى جنب مع القرآن، وضمن هذا السياق تفسر الباحثة النسوية عائشة تشاودري، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا الكندية، السياق الذي استبعد خلاله الحديث وأرجعته إلى ثلاثة عوامل، هي:
الأول: أن الاهتمام بالنص القرآني أمر بدهي، إذ لو استطاعت الباحثات البرهنة على أن الله سبحانه وتعالى من خلال كتابه يدعو للمساواة بين الجنسين فسيصبح لديهن أرضية صلبة للانطلاق نحو المصادر المرجعية الأخرى.
الثاني: يكمن في كون القرآن نصاً واضح المعالم ومحدداً من حيث الحجم في كتاب واحد، بينما السُّنة الحديثية تتألف من نصوص غير مكتملة الوضوح أو التبلور -كما تدعي- كما تقدر بآلاف الأحاديث التي تنتشر في عدد كبير من المؤلفات، وليس هذا فحسب، بل إن بنية الأحاديث ذاتها تثير تساؤلات حول مدى مصداقيتها، إذ إن اختلاف سلاسل الرواة وتعدد المرويات كل هذا يصير شكوكاً حول المنهجية التراثية في نقد وتمحيص الأحاديث، وحتى لو قبلنا بها فما مدى حجيتها؟ وهل يمكن أن تشكل مرجعاً يكافئ القرآن؟
الثالث: ظروف حياة النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش في القرن السابع الميلادي، وليس بوسعنا تحريره من السياق الذي عاش فيه، حيث ارتبطت كلماته وأفعاله ارتباطاً مباشراً بأحداث تاريخية تعكس السياق الذي عاش فيه وتحديه له في بعض الأحيان، «وقد نتجت عن ذلك الوضع نظرتان للنبي من الصعب التوفيق بينهما، فمن ناحية يمكن اعتبار النبي رجلاً تقدمياً ومساوياً، لكن نظرته المساوية -مثل النص القرآني ذاته- مقيدة بسياق شبه الجزيرة الاجتماعي والتاريخي في القرن السابع الذي يعيش فيه».
أفضت هذه العوامل إلى عزوف الباحثات عن تأويل الحديث، وهو ما يعد أمراً غير مفهوم؛ لأنهن يدعين أن الصورة النمطية للنساء في المجتمعات الإسلامية تكرست من خلال الحديث وليس القرآن، وعلى هذا فإننا يمكن أن نلحظ أن هناك مرحلتين في تعامل الباحثات مع الحديث:
الأولى: العزوف عن الحديث، ونجدها لدى الجيل الأول من النسويات المسلمات.
الثانية: وفيها نجد محاولات لتأويل الحديث الشريف، بل وتفكيكه عبر الطعن في منهجيات المحدثين، والزعم أن بعض الرواة والمحدثين كذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ونسبوا إليه أحاديث تعبر عن حقدهن على النساء، ويكمن ذلك التوجه في إدراك الباحثات أن تجنب الحديث لم يكن ذا فائدة؛ لأن جموع المسلمين في الشرق أو حتى الغرب يعتبرون أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله مرجعية، وعلى إثر ذلك ظهرت محاولات نسوية لتأويل الحديث، ومن أمثلتها محاولة فاطمة المرنيسي في كتابها «الحريم السياسي»، ومحاولة الباحثة الأمريكية من أصل باكستاني رفعت حسن التي يمكن التوقف أمامها باعتبارها نموذجاً لكيفية مقاربة الحديث من منظور نسوي.
الحديث من منظور نسوي.. نموذج تطبيقي
تعتقد رفعت حسن أن فكرة عدم المساواة بين الرجال والنساء، وأن الرجال فوقهن بدرجة تنبع من ثلاثة ادعاءات دينية، هي:
الأول: أن الله تعالى خلق آدم أولاً وحواء بعده، حيث يعتقد أنها خلقت من ضلعه، وبالتالي هي مشتقة منه وتابعة له من الناحية الأنطولوجية (الوجودية).
الثاني: أن حواء أغرت آدم بالخروج من الجنة.
الثالث: أنها لم تخلق من الرجل، بل لأجله أيضاً، وهو ما يجعل وجودها مرتبطاً به، وليس مهماً في حد ذاته.
أفضى ذلك إلى تناول مسألة الحديث ودوره في تكريس فكرة دونية النساء عن كثب، وتنطلق في ذلك من فكرة أن هذه الأحاديث المتعلقة بالنساء إنما تعبر عن ثقافة القرن السابع والثامن، وأنها متأثرة إلى حد بعيد بالديانات السابقة والتقاليد العربية التي سادت شبه الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام، وحتى تبرهن على مدعاها تتوقف أمام الحديث الخاص بخلق المرأة من ضلع الرجل الذي تدعي أنه يقف وراء عدم المساواة بين الجنسين.
تحصي رفعت ست روايات للحديث الشريف وردت في البخاري، ومسلم، وتقف إزاء هذه الروايات موقف النقد، ويتوجه نقدها إلى كل من السند والمتن، وأما السند فتقدم ثلاث ملاحظات نقدية بشأنه:
أولها: أن الروايات الست يرويها عن النبي راوٍ واحد هو أبو هريرة، وأن الحديث برواياته يوضع في فئة الغريب.
ثانيتها: أن الحديث برواياته يدخل في قسم «المعنعن»، حيث إن سلسلة رواته منقطعة وغير متصلة، وهو بهذا يصنف ضمن الحديث الضعيف.
ثالثتها: أن أحد رجال السند هو عبدالعزيز بن عبدالله، وهو موضع خلاف بين المحدثين، البعض يرى أنه ثقة والبعض الآخر يعتقد أنه ليس ثقة، والأمر نفسه ينطبق على حرملة بن يحيى الذي ورد في رواية الإمام مسلم.
وبناء على هذا، تخلص إلى أن الحديث لا يمكن أن يكون من صحيح الحديث لضعف رواته، ولأن علماء الحديث يقرون أن الأحاديث التي يرويها أبو هريرة ليست جميعاً منقولة عنه.
وأما متن الحديث في جميع رواياته فهو يصادم القرآن ويذهب مذهباً معارضاً له، فالقرآن يبين أن آدم وزوجه خُلقا «من نفس واحدة»، ويشير إلى أن الله خلق الإنسان «في أحسن تقويم»، وعليه فإن هذا الحديث لا يمكن أن يكون صحيحاً، وإنما هو مستوحى من التوراة ومن سفر التكوين على وجه التحديد.
وبالنظر في هذه المقاربة التي تعد نموذجاً للمقاربات النسوية للحديث، يمكن أن نقدم بعض الملاحظات بشأنها:
الأولى: أنها تعد مقاربات جزئية وليست شمولية؛ بمعنى أنها تنتزع حديثاً أو بضعة أحاديث على أحسن الفروض وتقوم بمناقشتها بعيداً عن المدونة الحديثية، ودون دراسة علاقتها بغيرها من الأحاديث، ويؤدي هذا إلى إشكاليات عدة من بينها كيف يمكن تفسير وجود الأحاديث التي تنصف النساء إذا كان الحديث بأسره مكذوباً؟ ولماذا لا يتم توظيفها من قبل الباحثات؟
الثانية: أنها مقاربات تتبنى فكرة التاريخانية وتنطلق منها في التعاطي مع النصوص الدينية، ومن ثم تعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلح إلا للقرن السابع أو الثامن على أقصى تقدير.
الثالثة: أن ما تقدمه من نقد للحديث لا يعدو كونه نقداً ظاهرياً هشاً، لا يطال البنية الحديثية، وغايته الطعن في هذا الراوي أو ذاك، والادعاء بوجود تعارض بين القرآن والحديث، دون تقديم أدلة على ذلك، ويمكن تفسير هشاشة النقد على ضوء انحدار الباحثات من خلفيات معرفية مختلفة بعيدة عن الدراسات الشرعية؛ وبالتالي لا يستطعن تقديم نقد جوهري للمنهجيات الشرعية، ولولا التقنيات الحديثة التي يسَّرت البحث في المصادر التراثية لما أمكنهن مقاربة هذه الموضوعات.
الجدير بالذكر، أن رفعت حسن ولدت في مدينة لاهور الباكستانية، وتلقت تعليمها في المدارس الإرسالية في البنجاب، ثم التحقت بجامعة البنجاب وغادرتها إلى جامعة دورهام البريطانية، حيث حصلت على الدكتوراة عام 1968م، عقب عودتها إلى بلادها عملت في وزارة الاتصالات بضع سنوات ثم هاجرت إلى الولايات المتحدة حيث عينت أستاذاً للقرآن الكريم في عدد من الجامعات الأمريكية.