حرب طائرات مباغتة فوق واشنطن ونيويورك
الثلاثاء الماضي … وفي حوالي التاسعة إلا الربع صباحاً بتوقيت واشنطن «الثانية والربع بتوقيت الشرق الأوسط» كانت الولايات المتحدة ـ من حيث لا تحتسب ـ على موعد مع أسوأ حادث وأسود يوم في تاريخها، أصاب البلاد بحالة ذعر ورعب لم تشهد لها مثيل منذ الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر أثناء الحرب العالمية الثانية.
سلسلة من الهجمات والتفجيرات العنيفة نُفذت بثلاثة من الطائرات المدنية التي اختطفها مجهولون ودمروا بها مبنيي مركز التجارة العالمي وهما برجان كانا ينتصبان في سماء نيويورك بارتفاع 110 طوابق انهارا تحت وطأة الاصطدام والنيران التي اندلعت بهما، ثم مبنى وزارة الدفاع «البنتاجون» فيما وقع انفجار آخر في مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، وتلا ذلك عدد آخر من الانفجارات والانهيارات.
بدأت الهجمات بهجوم انتحاري ـ على ما يبدو ـ نفذه مختطفو الطائرات: الأولى في الساعة التاسعة إلا الربع صباحاً بطائرة مدنية من طراز بوينج، ثم تبعه هجوم مماثل ثم هجوم ثالث بطائرة ثالثة سقطت بين اثنين من مباني وزارة الدفاع، والطائرات الثلاث طائرات مدنية، جرى اختطافها خلال قيامها برحلات داخلية من شرق إلى غرب الولايات المتحدة. ويبدو أن الجهة التي تقف وراء هذه الأحداث قد سيطرت على أحد المطارات الأمريكية، وجميع الطائرات المختطفة أمريكية وكانت في رحلات طيران داخلية.
وخلال ساعات فقط عاش الشعب الأمريكي أسوأ حالة من الرعب وهو يشاهد مبنى مركز التجارة العالمي .. أحد رموز أمريكا وهو يتهشم كقطع البسكويت وتشب فيه النيران كما لو كان كومة من القش.
في تلك اللحظات أصيبت الآلة الأمريكية بشتى أنواعها «العسكرية، الأمنية، الاجتماعية» بالذهول التام وانكشفت عورات الدولة الأولى في العالم والقوة العسكرية العظمى، فقد كان من المتوقع أن نشاهد تعاملاً مع الكارثة ـ بسرعة ونظام وكفاءة ـ يثير الإعجاب والتقدير، لكن الشلل أصاب الجميع، وبرز سؤال: كيف لم تدرك الأجهزة المعنية اختطاف الطائرات من البداية ولم ترصد تغيير مسارها؟!!
الذعر عم البلاد بولاياتها الاثنتين والخمسين فتم إغلاق حدود الولايات المتحدة مع جيرانها وأعلن الرئيس بوش حالة الاستنفار القصوى في الجيش، كما جرى إخلاء جميع المباني الفيدرالية الرئيسة في واشنطن. كما أُخلى البيت الأبيض، ومقر الكونجرس في واشنطن ومقر الأمم المتحدة في نيويورك، وعدد آخر من المباني في ولايات مختلفة. كما تم إغلاق جميع الأسواق المالية والمحال التجارية في واشنطن ونيويورك. وأغلقت شبكة الأنفاق في المدينة وجميع الجسور المارة بها.
الهلع الأمريكي امتد إلى خارج الحدود فقد تم إغلاق جميع السفارات الأمريكية بالخارج، وقام حلف شمال الأطلسي بإجلاء الموظفين الزائدين على الحاجة في مقره ببروكسل، ودعا الحلف إلى تشكيل جبهة دولية لمواجهة الإرهاب ووضعت القوات الأمريكية في منطقة الخليج في حالة تأهب قصوى.
وفي الكويت طلبت السفارة الأمريكية من رعاياها أخذ كل الإجراءات الاحترازية والحيطة، وأوصت السفارة في بيان لها الرعايا الأمريكيين بالهدوء وتجنب الإثارة حفاظاً على أمنهم وسلامتهم.
الكيان الصهيوني أعلن درجة الاستعداد القصوى وأغلق المجال الجوي، كما أعلنت روسيا ودول أوروبية رفع درجة الاستعداد القصوى.
وبينما كانت السفن الأمريكية المحتشدة في الموانيء تتفرق قبالة السواحل الأمريكية حتى لا تتعرض لهجوم، تم تجميد إقلاع الطائرات ووقف حركة الطيران كليا لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة، وبعد أن تراجع الرئىس بوش عن العودة إلى واشنطن لأسباب أمنية ولم يعرف المكان الذي يقيم فيه، وكذلك بقية كبار المسؤولين عاد وأعلن العودة إلى واشنطن لطمأنة مواطنيه.
وقد أُعلنت منطقة واشنطن منطقة كوارث وتواردت الأنباء عن طائرات أخرى مختطفة كانت على وشك تنفيد هجمات مماثلة على أهداف حيوية، وقد سقطت بالفعل طائرة جامبو مختطفة في بنسلفانيا وعلى متنها 38 راكباً، ولم يتأكد ما إذا كانت الطائرة قد أسقطت قبل تنفيذ عملية مماثلة.
وهكذا تحركت الأحداث متسارعة حتى وجد العالم نفسه مذهولاً أمام بانوراما مرعبة تشكلت أجزاؤها خلال ساعات، وكأنه السيناريو الذي جسده أحد أفلام هوليود عن هجوم روسي صيني مشترك ضد الولايات المتحدة يحولها إلى ما يشبه يوم القيامة.
ترى كم من المليارات بلغت الخسائر؟ وكم عدد الضحايا؟ إن مركز التجارة وحده يتردد عليه يومياً 150 ألف شخص وفقاً للبيانات الأمريكية، وكان العمل فيه قد استؤنف قبل ساعة إلا الربع من الانفجارات.
حتى كتابة هذه السطور لم تتضح الصورة الإجمالية للخسائر الناجمة عن هذه الحرب المباغتة، ويتوقع أن يزيد عدد الضحايا على عشرة الآف شخص.
أما الخسائر المادية فيمكن أن تصل إلى التريليونات من الدولارات فضلاً عن الخسائر الجسيمة التي أصابت أسواق العالم، ولا شك أن الخسائر النفسية على صعيد المجتمع الأمريكي ستكون أشد قسوة، جنباً إلى جنب مع الخسارة على الصعيد السياسي، وخاصة ما يتعلق بمكانة الولايات المتحدة وصورتها الأسطورية التي أمعنت وبالغت كثيرا في فرضها على العالم.
فمع تسليمنا الكامل بأن ما حدث يمثل كارثة إنسانية إلا أنه في الوقت نفسه قد مثل ضربة كبيرة لصورة القوة الأمريكية التي غضت الطرف طويلاً عن معاناة الشعوب المستضعفة والفقيرة. ولعل الأمريكيين الذين عانوا الرعب والدمار، يدركون ما يعاني منه الشعب الفلسطيني، وشعوب أخرى كثيرة من سياسات حكوماتهم، فيمارسون الضغط عليها لوقف دعم حكومة الاحتلال الصهيوني وغيرها من الحكومات المستبدة.
ففي الآونة الأخيرة كنا نفاجأ كل يوم تقريباً بموقف أمريكي جائر ضد الشعب الفلسطيني ولصالح العدو الصهيوني حتى أصبحنا على يقين من أن الذي يحارب في فلسطين ويقتل شعبها المثابر هي الولايات المتحدة في صورة الكيان الصهيوني.. فهل تأخذ الإدارة الأمريكية والشعب الأمريكي العبرة مما أصابهم من آلام وهلع وضحايا وخسائر وتقف وقفة مع مشاعرها وضميرها وتحس بما يعانيه الشعب الفلسطيني من آلام تحت الاحتلال وفي حياة الشتات على أيدي اليهود؟!
وفي الوقت نفسه فإن آثار هذه الحرب المباغتة والسريعة تدعو الإدارة والمؤسسات الأمريكية لإعادة النظر في منظومة التعامل مع طبقات بعينها داخل المجتمع الأمريكي مثل السود والملونين والمهاجرين من العرب وأمريكا الجنوبية، بل ومع الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين الذين يتم حبسهم في محميات خاصة ولا يسمح لهم بتجاوزها.
الجهة المنفذة للأحداث
تخمينات وتحليلات بالغت في إجهاد نفسها لمحاولة التعرف على الجهة التي تقف وراء هذه الحرب المباغتة، لكن اللافت للنظر من جملة هذه التحليلات أن العديد من الفضائيات العربية بادر بالإشارة إلى الطرف العربي والمسلم باعتباره متهماً بالضلوع في الأحداث، وحاول بعض المحللين توليد شيء من لا شيء فلم يجدو أمامهم إلا استحضار الطرف العربي والمسلم وتشريحه من خلال تساؤلات متناقضة بينما كانت وسائل الإعلام الغربية بما فيها الأمريكية ـ تتناول المسألة بحذر!.
ووسط هذه التخمينات برز تساؤل عما إذا كانت هناك أصابع يهودية وراء الأحداث لتفجير الموقف الأمريكي ضد العرب والمسلمين؟
وإن كان متحدث مجهول قد أعلن لبعض وسائل الإعلام عن مسؤولية الجيش الأحمر الياباني عن الأحداث مبرراً ذلك بالرغبة في الانتقام لما حدث في هيروشيما خلال الحرب العالية الثانية عندما ألقت الطائرات الأمريكية قنبلة نووية على المدينة، إلا أن ذلك كله لا يكفي للبت في تحديد الجهة التي نفذت التفجيرات المرعبة.
وهناك منحى آخر لاستكمال الصورة وتحديد من يقف وراء الأحداث، ـ إذ يجب أن نقف أمام خريطة المجتمع الأمريكي ذاته ونغوص في أعماقه وسنجده مليئاً بالميليشيات التي تحمل السلاح من كل نوع وتحمل معتقدات خربة وأفكاراً غريبة وشاذة معظمها يصب في مخاصمة الدولة الاتحادية ويتحرك وفق ذلك للقضاء على الجميع، وعندما يجتمع هوس السلاح مع هوس الفكر فلابد أن تكون الكوارث هي النتيجة الطبيعية.
وعندما نتحدث عن الميليشيات والمنظمات الأمريكية المسلحة فإننا لا نتحدث عن مئات من الشباب وإنما عن جماعات منظمة تقدر بعض التقارير أعدادها بمائة ألف مواطن أمريكي يرفعون السلاح في وجه الحكومة الفيدرالية.
ويعد تيموثي ماكفاي منفذ انفجار أوكلاهوما في 19 أبريل 1995م واحداً من أفراد هذه الميليشيات التي تشكل مجتمعاً أمريكياً آخر ـ موازيا للمجتمع المعلن ـ يتغذي على كراهية الحكومة، يمتلك أدوات عديدة من وسائل إعلام وسلاح وتتم إدارته من خلال زعماء ومفكرين يدعون علانية للصدام المسلح مع الحكومة إذا اقتضى الأمر.
ويؤكد تقرير صدر عام 1998م عن مركز «ساوثرن بوفرتي لوسانتر» الأمريكي المستقل والمتخصص في مراقبة التحركات المعادية للسلطة أن المجموعات التي تحرض على الحقد (النازية الجديدة، فروة الرأس، المدافعون عن تفوق العرق الأبيض، الهوية المسيحية …. ) ارتفع ما بين عامي 1996 و1997م بنسبة 20% ليصل إلى 500 مجموعة تضاف إلي 850 مجموعة أخرى منها 400 ميليشيا مسلحة منتشرة في أرجاء البلاد.
ويقول التقرير: إن عدد التحقيقات التي أجراءها جهاز الاستخبارات الفيدرالي «إف . بي . آى» خلال ثلاث سنوات من عمليات الإرهاب الداخلي ارتفع من 100 إلى أكثر من 900 تحقيق.
ويؤكد مارك بوتوك مسؤول المركز المذكور أن «معدل المؤامرات الإرهابية الجدية يبلغ واحدة كل شهر»، وتتعلق هذه المؤامرات ـ وفق التقرير ذاته ـ بعمليات نسف جسور أو مبانٍ أو اغتيال شخصيات رسمية واقتحام قواعد عسكرية وسرقة مصارف.
وفي 18 مارس من العام 1998 ألقت قوات الأمن القبض على ثلاثة أشخاص تابعين لميليشيا ميتشيجن «أخطر الميليشيات المسلحة» وهم يخططون لتفجير مبانٍ فيدرالية ومحطة تليفزيون وأحد الجسور الكبيرة.
وخلال الأسبوع نفسه أعلنت السلطات الفيدرالية عن سرقة طن كامل من المتفجرات في مدينة سليجو شمال شرق بنسلفانيا.
ولا شك أن أوضاعاً عديدة تعاونت على تسهيل ولادة هذه الميليشيات من بينها الدستور الأمريكي نفسه الذي ينص في تعديله الثاني على أن «وجود ميليشيا منظمة أمر ضروري لتأمين حرية كل ولاية».
ومن الناحية التاريخية فقد كان التشكيل الأول لهذه الميليشيات في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، حيث خاضت ما يسمى بحرب الاستقلال وظلت بعد ذلك على وضعها حتى اليوم.
لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تزامن مع بعض الأحداث الداخلية الأمريكية تولد لدى شريحة من الطبقة العاملة شعور بأن الحكومة الفيدرالية هي العدو القادم خاصة بعد قيام الحكومة بالحد من حرية المواطن في حيازة السلاح، إضافة إلى عدم اهتمامها بمشكلة البطالة التي تعاني منها أعداد هائلة من هذه الطبقة، وهو ما فسره البعض على أنه بداية لمزيد من الانتهاكات لحقوق المواطنين.
والنتيجة قيام هؤلاء باستخدام حقهم الدستوري في تكوين ميليشيات مسلحة جديدة وإحياء ميليشيات قديمة للوقوف في وجه حكومة ديكتاتورية طبقاً لرأيهم.
ولم يكن خطر هذه الميليشيات خافياً على الخبراء والمختصين ووسائل الإعلام الأمريكية، ولذلك ظل الجميع يحذرون من خطرها، فمجلة «تايم» الأمريكية خصصت ملفاً كاملاً عن هذه الميليشيات في عددها الصادر في 8/5/1995م تحت عنوان «دليل حول الميليشيات المسلحة في أمريكا»، وأوردت أسماء أخطر عشرين منظمة تنتشر في أنحاء الولايات المتحدة، (كانت المجتمع من أوائل المطبوعات العربية التي تناولت هذه الميليشيات بملفات متنوعة بداية من عام 1995م حتى الشهر الجاري)، ويقول ميتشيل هاميرز أحد خبراء الجامعة الأمريكية في واشنطن: إن الإرهاب الداخلي يشكل تهديداً متزايداً وهو أكثر تنظيماً في أوساط الميليشيات.
ويضيف: إنهم لا يستعملون فقط قنابل بسيطة كتلك التي استخدمت في أوكلاهوما سيتي ولكن مخازنهم تتضمن أسلحة دمار أكثر تطوراً من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية.
وفي جلسة خاصة للكونجرس الأمريكي في مايو من عام 1995م حذر ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين من تعاظم خطر الإرهاب المحلي مشيرين إلى أن الرعايا الأمريكان أصبحوا يواجهون خطر الإرهاب المحلي أكثر من الإرهاب الخارجي المدعوم خارجياً.
هذا عن الميليشيات المنتظمة أما عن جرائم العنف التي كان سببها السلاح فحدث ولا حرج، فوفق الإحصاءات الرسمية الأمريكية سقط 34 ألف قتيل بواسطة السلاح … وفي الآونة الأخيرة تزايدت أحداث العنف ووصلت إلى معدلات غير مسبوقة، بعد أن زادت ثقافة السلاح والعنف في المجتمع الأمريكي وصارت تنهش في بنيانه.
ألا يدعو ذلك إلى وضع «العدو الداخلي» على رأس قائمة المتهمين بتدبير أحداث الثلاثاء الأسود؟
بعد التفجيرات: السيناريو المتوقع
إلى أن يتم الكشف عن الفاعلين الحقيقيين .. هذا سيناريو لما يتوقع أن يحدث في الأيام المقبلة داخل الولايات المتحدة:
– شن حملات إعلامية منظمة يتم فيها توجيه الاتهام للعرب والمسلمين بارتكاب التفجيرات والتخويف من الخطر الإسلامي الأخضر الذي حل محل الخطر الشيوعي الأحمر، وسوف تتبارى وسائل الإعلام الصهيونية والأمريكية، أو التي تعادي الإسلام والعرب .. في استخدام جميع فنون الإقناع وغسل المخ الإعلامي، من أجل تحقيق هذا الهدف.
– تعرض المسلمين في الولايات المتحدة وعددهم نحو سبعة ملايين مسلم، لكم هائل من الإيذاء والعنصرية وربما الاعتداءات المباشرة.
– تفاقم النظرة إلى العربي المسلم على أنه إرهابي وغير متحضر.
– سيحاول الصهاينة والمتعاطفون معهم أن يجعلوا مصطلح «الأصولية الإسلامية» مصطلحاً قبيحاً، يحمل في معناه الإرهاب والحقد والتخلف ويعادي التحضر والمدنية… الخ.
– سيلجأ الكيان الصهيوني إلى استثمار الأجواء المحيطة بالتفجيرات لصرف أنظار العالم عما يقوم به من بطش وتقتيل وتدمير بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، والحصول على مزيد من التأييد الأمريكي الأعمى للعمليات التي يمارسها … مع إقناع الإدارة الأمريكية بأنه يعاني من الإرهابيين كما تعاني الولايات المتحدة .. وينبغي تكاتفهما معاً في مواجهة الإرهاب.!<