الثروة الثقافية والفكرية من أهم مصادر القوة؛ فبها يتم بناء وعي الإنسان، وتشكيل شخصيته المتميزة، وإعداده للقيام بوظيفته الحضارية؛ لذلك فإن المكانة العالمية تعتمد على قدرة الأمة على استثمار تاريخها وتراثها في بناء مجتمع المعرفة الذي تنطلق فيه العقول لتنتج أفكاراً جديدة، وحلولاً مبتكرة للمشكلات، ومواجهة التحديات.
والأمة الإسلامية تمتلك ثروة معرفية أنتجتها عقول المسلمين، وبنوا بها أعظم حضارة عرفها التاريخ، عاش فيها الإنسان حراً عزيزاً مكرماً قوياً يؤمن بالله وحده، ويعمر الأرض عبادةً لله، ويطور العلوم والآداب، ويبني المدن، ويعلم الناس، وينشر نور المعرفة.
اكتشاف الثروة وتوظيفها
ولكي تتمكن الأمة الإسلامية من قيادة الإنسانية مرة أخرى لبناء حضارة جديدة، يجب أن تعيد اكتشاف ثروتها المعرفية والثقافية، وتوظيفها لتحرير الإنسان من الخرافات العنصرية الغربية، ومن الاستعمار الثقافي.
لكي تتمكن الأمة من قيادة الإنسانية يجب إعادة اكتشاف تراثها وتوظيفه لتحرير الإنسان من الاستعمار الثقافي
ولتحقيق هذا الهدف يجب إعداد جيل جديد من الباحثين والعلماء الذين يعتزون بالانتماء للإسلام؛ عقيدة وحضارة وثقافة ومنهج حياة، وأن ينطلقوا من الرؤية الإسلامية للكون والحياة، وأن يتحرروا من استخدام المناهج العلمية الغربية التي ترغم الباحث على وصف الظواهر وتفسيرها بالأساليب المادية.
كما أن هؤلاء الباحثين يجب أن يحرروا أنفسهم من الأساليب التي استخدمها المستشرقون لتشويه التاريخ الإسلامي التي اعتمدت على التركيز على الأحداث السلبية وتضخيمها، وتجاهل الإنجازات الحضارية العظيمة التي قدمها علماء الإسلام.
الحاجة إلى تحرير المصطلحات
هناك أيضاً قضية مهمة؛ تتمثل في مراجعة المصطلحات التي فرضها الغرب علينا، التي أصبح الباحثون يستخدمونها بدون تفسير دلالاتها، فالعالم يعيش منذ بداية القرن التاسع عشر حرب مصطلحات ومفاهيم ونظريات وكلمات، يستخدمها الغرب في تزييف وعي الشعوب وتضليلها.
ويعتبر مفهوم «التراث» من أهم هذه المفاهيم التي دفعت الكثير من الباحثين إلى التعامل مع مصادر قوة الأمة وثروتها الفكرية دون تمييز وتحديد للأهمية، وتصوير الأمر على أن كل ما تمتلكه الأمة من ثروة علمية وفكرية مجرد تراث يمكن الاستغناء عن بعضه والتخلي عنه بهدف الخضوع للواقع، ولمتطلبات الاستعمار الغربي.
على العلماء البحث عن الإنجازات العلمية والأدبية التي قدمت وصفاً صحيحاً لتحرير البشرية من الظلم
القرآن ليس تراثاً
يجب أن نحدد حدود مفهوم التراث، وأساليب التعامل معه؛ فالقرآن الكريم ليس تراثاً؛ فهو كلام الله تعالى المنزَّل على خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتكفل له بحفظه إلى يوم القيامة بكلماته ومعانيه ونسيجه الصوتي، وهو المصدر الرئيس لقوة الأمة، وأساس بناء الحضارة الإسلامية، وأحكامه صالحة لكل زمان ومكان، وكل ما جاء فيه حق، ولا مجال للمساومة حول تلك الحقيقة؛ لأنها عقيدة المسلمين التي توحدهم، ويجب التعامل مع القرآن بأدب واحترام وتقديس، وهذا هو الأساس لقبول الحوار مع الآخرين، والتعامل مع كل من يدَّعي البحث العلمي.
التعامل مع السُّنة والسيرة باحترام
كما أنه يجب التعامل مع سيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم باحترام وتقديس، فلقد اجتهد علماء الأمة في حفظ السيرة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقوا مناهج علمية للتأكد من صحة الحديث وصدق رواته وعدلهم، ومضمون الحديث.
كما اجتهد علماء المسلمين في وصف أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت الأمة تعرف بيقين سيرة رسولها، وتفخر بهذه السيرة التي تؤكد صدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والسيرة والسُّنة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مصدر مهم للقوة؛ حيث ألهمت المؤمنين في كفاحهم لتحرير البشرية من العبودية لغير الله ولبناء الحضارة الإسلامية.
تراث علمي وأدبي عظيم
بالرغم من نقدي العلمي لمفهوم التراث، فإنني أقبل التعامل مع ما أنتجه المسلمون لبناء الحضارة من علم وأدب وشعر بالمناهج العلمية كتراث، وإن كنت أفضل مفهوم الثروة العلمية والمعرفية والثقافية والحضارية على مفهوم التراث؛ فهذا المفهوم يمكن أن يفتح المجال لاستثمار هذه الثروة وتوظيفها.
تطوير مقاييس جديدة لنقد التراث واكتشاف مصادر القوة فيه وعدم الخضوع للمقاييس الغربية التي تشوه الإسلام
ونرى أن المستشرقين نقبوا في تلك الثروة العظيمة عن أحداث سلبية، وآراء ضعيفة، واجتهادات شكلت اختلافات بين الأمة، وساهمت في تمزيقها؛ لذلك يجب أن يقوم علماء الأمة بدورهم في البحث عن الكثير من الإنجازات العلمية والأدبية التي قدمت وصفاً صحيحاً لكفاح الأمة لبناء الحضارة الإسلامية، وتحرير البشرية من الظلم.
وصف الانتصارات لبناء وعي الأمة
من أهم ما يجب أن نبحث عنه لبناء وعي الأمة وصف العلماء والأدباء والشعراء لما حققته الأمة من انتصارات خلال تاريخها، فهو مصدر مهم لتحقيق القوة الإسلامية، وبناء مستقبلها، والفخر بهويتها وتاريخها.
ولقد تم تجاهل هذا الوصف والتشكيك في صحته خلال القرنين الماضيين تحت تأثير الاستعمار الثقافي، وحاول أنصاف الجهلاء تشويه صورة قادة المسلمين الذين حققوا الانتصارات، خاصة صلاح الدين الأيوبي، وادعوا كذباً أنهم يطبقون المناهج العلمية، وأنهم يقومون بنقد التراث، بينما كانوا ينقلون أكاذيب الغرب، ويخدمون الاستعمار.
ماذا يمكن أن نستبعد من تراثنا؟
لكن في المقابل، يجب على جامعاتنا أيضاً أن تقوم بدورها لتأهيل باحثين لنقد الكثير من التراث، فالغرب اعتمد في تشويه الإسلام على كتاب «ألف ليلة وليلة»، واستمد منه الكثير من القصص التي تحولت إلى أفلام؛ بينما لا تمت تلك القصص للإسلام أو العرب بصلة، كما تم الاعتماد على الكثير من السير الشعبية التي تم إنتاجها في عصور الضعف، ونسبها الغرب زوراً وكذباً للحضارة الإسلامية.
لذلك، يجب أن نطور مقاييس جديدة غير غربية لنقد التراث، واكتشاف مصادر القوة فيه، وعدم الخضوع للمقاييس الغربية التي تستهدف تشويه الإسلام.
والأمة الإسلامية تحتاج لتوظيف علمائها الذين يفخرون بالانتماء لها في اكتشاف ثروتها الفكرية، وتقييمها في ضوء القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالمبادئ الإسلامية لبناء قوتها وإعادة بناء الحضارة الإسلامية.