وتصرخ فينا التجارب بأنَّ الانفعالات والأفكار تتوارى خلف سلوك الإنسان، وتُجَسِّدُ علاقتَهُ بالله، ويغمرُنا الكرمُ الإلهي، وييسر لنا عزَّ وجلَّ زيارة مسجد الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونقف أمام القبر الشريف بقلوبٍ واعية، وألسنةٍ داعية، ونظراتٍ غارقة في الضراعةِ والدموعِ، ونتلفت متأملين منبره الشريف، وتحلِّق في ذواكرنا(1) برفقٍ ودَعةٍ عبارته الشريفة: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياضِ الجنةِ»(2).
وتسبح أروحنا في آفاقِ الروضةِ ونحن نتبتَّـلُ فيها لحظات، ونتذكَّرُ خبر اليتيمين سهلٍ، وسهيلٍ(3) ابني رافعٍ(4) صاحبي المربد(5) الذي اختطَّ عليه المهاجر الأعظم صلى الله عليه وسلم مسجده، ونترضى عنهما موقنين بأن الله صيَّرَ مصيرَهُما إلى روعةٍ تعادلُ مصيرَ مربدِهما.. وربما رامتْ قلوبنا الآن شيئًا من أخبارِهما.. تعالوا إلى ما شئنا.
حلَّ المهاجرُ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم بدارِ مُهَاجرِهِ، ووسط غمارٍ من المهاجرين والأنصارِ طفقتْ ناقتُهُ تشقُّ الزحام مترفقةً، وجعل كل أنصاري يبذل قصاراه(6) كيما يظفر بشرف مقامِ النبي بدارِهِ، وراح صلى الله عليه وسلم يستوعب الجميع بنظرةٍ شاكرة، حتى أخوالِ أبيهِ من بني النجارِ أسمعَهُم كلمات الشكرِ والاعتذارِ عندما صاحوا مغبوطينَ محبورينَ: يا رسول الله، هلمَّ إلى أخوالِكَ.. وبينما يستوعب صلى الله عليه وسلم الجميع ببسمة شاكرة، أرخى للناقةِ عنانها، وترك الجميعُ الأمر لله ثم للناقةِ، وتعلقتْ عيونُهُم بسيقانِها وهي تشقُ الزحامَ متمهلةً وتمضي في حريةٍ كاملة، ويعلو صياحُ قلب كل أنصاري تمرُّ الناقةُ من أمامِ دارِهِ وفي عينيهِ تبدو الأمنيةُ.
وفجأةً تأنتْ الناقةُ في خطواتِها، وهدأتْ حركةُ سيقانِها، وما لبثت أن سكنتْ تماماً ثم طوتْ قوائِمَها وبركتْ في مربدٍ لسهلٍ وسهيلٍ ابني رافعٍ بنِ أبي عمرو، وكانا غلامين يتيمين في حجرِ أسعد بن زرارة رضي الله عنهم جميعًا، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الغلامين ليشتري منهما المربد، ويختطُّ عليه مسجده، بيد أنَّ حب الدعوةِ والداعي كان قد خالطَ شغاف قلبيهما، وطَمحَا إلى البذلِ النبيل من أجلِهِما رغمَ وطأةِ الفقرِ وقهرِ اليتمِ فقالا: بل نهبُهُ لك يا رسولَ اللهِ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليصيب يتيمين فقيرين في شيء من مالِهِما، فأبى قبولَهُ هديةً، وتدخل معاذ بن عفراء رضي الله عنه قائلاً: سأرضيهُما فاتخذْهُ يا رسول الله مسجداً، فأبى صلى الله عليه وسلم وابتاعَهُ منهُما.
وَبُنِيَ المسجد النبوي غاية في البساطة، وآية في الزهد حيث اتخذوا الطوب اللبن في البناء، وجعلوا سقفه من الجريد، وأعمدته من جذوع النخيل، ولا يرتفع إلا قدرًا يسيراً عن قامة الإنسان، وجعلوا له ثلاثة أبواب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأرضه فَحُصِّبَتْ(7)، وَبُنِي بجانبه حجرتان إحداهما للسيدة سودة بنت زمعة، والأخرى للسيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فلم يكن صلى الله عليه وسلم متزوجًا غيرهما حينذاك، وكانت الحجرتان ملاصقتين للمسجد وعلى شكل بنائه، حتى قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: كنت أدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام مراهق فأنال السقف بيدي.
وَجُعِلَتْ الحُجُرَات تُبْنى كلما تزوج صلى الله عليه وسلم بأُخرى.
وانطلقَ سهل، وسهيل مع الأيامِ المتراميةِ، يصاحبُ انطلاقَهُما بذلٌ نبيلٌ من أجل دين اللهِ بقدر ما تُتِح لهما قدراتهما، فَشَهِدَ سهيلٌ «بدرًا»، و«أُحدًا»، و«الخندق»، والمشاهدَ كُلَها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رُفعَ عنه قلمُ التاريخِ ولم يُسَجِّل له أو عليه إلا خبر وفاتِهِ في خلافةِ الفاروقِ عمر رضي الله عنه.
أما سهلٌ فقد شهِدَ «أُحدًا» فقط وغابَ عن قلم التاريخِ أيضاً، وربما كان هناك ما حال بينه وبين بقيةِ المشاهدِ، ثم عادَ قلمُ التاريخِ يتتبعه في رائعةٍ تَدْفَعُنا أعظمَ الدفعِ إلى صوغِ ضمائرِنا كمسلمين عليهم تحمُّل مسؤولياتِهم نحو الدينِ، رائعةٌ يحتويها خبرٌ قصيرٌ، وجليلٌ، وشجينٌ، خبرٌ يجمعُ الضدين؛ النفاقَ بوجهِهِ الأكدر، والإخلاصَ بوجهِهِ الأشرقِ.
خبرٌ حملَهُ التاريخُ على عُجالةٍ وفي استحياءٍ، وأوقفنا مع عُمَيْرَة بنت سهلٍ بنِ رافعٍ(8)، هذي الصغيرة التي شبتْ في رحابِ أبيها الفقيرِ وبين جوانبِ دارِهِ الزهيدةِ، لنسمعْ منها: روتْ رضي الله عنها أن أباها خرجَ بها وبزكاتِه صاعاً أو صاعين من تمرٍ فصبَّهُ، ثم قال: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، قال صلى الله عليه وسلم: «وما هي؟»، قال: تدعو اللهَ لي ولابنتي، وتمسحُ على رأسِها، فليس لي ولدٌ غيرَها.
تقول عميرةُ: فوضع رسولُ الله يدَهُ عليَّ وأُقْسِمُ بربهِ لكأنَّ بردَ يدِ رسولِ اللهِ على كبدي(9).
فلمزَه المنافقون: إن الله غني عن صدقةِ هذا.
وهنا يقعُ علينا القولُ بأن أبا عقيلٍ الأنصاري الأراشي(10) تعرضَّ لذاتِ اللمز،ِ ونزلَ فيه قولُه تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة: 79).
وربما تشابهَ الخبرانِ، أمَّا الفائدةُ التي أردنا وقصدنا إثارتها التي تعنينا -كشباب وفتيات مسلمين- فذات شقين:
أولًا: البذل لله في نبل وسماحة مهما كانتْ قِلَةُ المبذولِ طالما كان هو جهدنا مع وجوب سلامة القصدِ.
ثانيًا: البذل في أي مجال نستطيعه مع تولية ظهورنا للمنافقين والضرب صفحًا عن غمزهم ولمزهم، والوقوف طويلاً مع ثمرة البذل الصادق، ألم نر أن الله عز وجل أنزل قرآناً في الباذل سواء كان سهلاً بن رافع أو أبو عقيل الأراشي؟! وهل يُعذب الله نفسًا أنزل فيها قرآنًا؟!
ولعل من نافلةِ القولِ: إن التوافقَ ألمَّ بسيرتَي سهلٍ، وسهيلٍ، وتوفي كلاهما في خلافةِ عمر، وما نحسبُ إلا أن اللهَ عز وجل صيَّر مصيرَهما في أُخراهما إلى روعةِ مصيرِ مربدِهِما في دنياهما.
________________________
(1) الإصابة (3541)، (3579)، والاستيعاب (1090)، (1106).
(2) جمع ذاكرة.
(3) حديث صحيح: أخرجه البخاري (2/ 77)، ومسلم (1391)، والترمذيّ (5/ 39).
(4) وقيل: هما سهل، وسهيل ابنا عمرو الأنصاريّ، وسوف نغضُّ الطرف عن الخلاف في اسميهما، ونمضي فحسب مع أحداث سيرتيهما.
(5) المِرْبَدُ: مربط الإبل ومحبسها.
(6) قصارى جهده وأقصاه.
(7) فرشوها بالحَصْباء، وهو حصى رملي حبيباته صغيرة. (8) أسد الغابة (7144).
(9) أخرجه ابن سعد (8/ 314)، وذكره الهيثميّ في الزوائد (7/ 36).
(10) الاستيعاب (4/ 1718).