من الأكاذيب التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين أن الإسلام قام على السيف، وأنه لم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه، وقد اتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجني الكاذب الآثم، وشتان ما بين تشريع الجهاد وإكراه الناس على الإسلام، فإن تشريع الجهاد لم يكن لهذا، وإنما كان لحكم سامية، وأغراض شريفة.
وهذه الدعوى الباطلة الظالمة كثيراً ما يرددها المبشرون والمستشرقون، الذين يتأكلون من الطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام، ويسرفون في الكذب والبهتان، فيتصايحون قائلين: أرأيتم؟! هذا محمد يدعو إلى الحرب، وإلى الجهاد في سبيل الله، أي إلى إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام، وهذا على حين تنكر المسيحية القتال، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح، وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السيد المسيح عليه السلام.
وقد فطن لسخف هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو توماس كارليل، صاحب كتاب «الأبطال وعبادة البطولة»، فإنه اتخذ نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام مثلاً لبطولة النبوة، وقال ما معناه: «إن اتهامه -أي سيدنا محمد- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من لا يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها» (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، للعقاد، ص 227).
ومن الإنصاف أن نقول: إن بعض المستشرقين لم يؤمن بهذه الفرية، ويرى أن الجهاد كان لحماية الدعوة، ورد العدوان، وأنه لا إكراه في الدين.
هل المسيحية تنكر القتال؟
وأحب قبل الشروع في رد هذه الفرية أن أبين كذب مزاعمهم في أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه، وتمقت الحرب، وتدعو إلى السلام، من الكلام المنسوب إلى السيد المسيح نفسه -من كتبهم- قال: «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، وإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته، من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني، ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني، من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها» (إنجيل متى، الإصحاح العاشر فقرة 35 وما بعدها)، فما رأي المبشرين والمستشرقين في هذا؟ أنصدقهم ونكذب الإنجيل؟ أم نكذبهم ونصدق الإنجيل؟! الجواب معروف ولا ريب.
وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن تحصى، على ما فيه من الصرامة وبلوغ الغاية في الشدة، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين آداب الحرب في الإسلام، وغيره من الأديان.
دلائل الوقع على افترائهم
وليس أدل على افترائهم من أن تاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث شاهد عدل على رد دعواهم، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا، خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد المسيح.
خضَّبها الرومان، وخضَّبتها أمم أوروبا كلها، والحروب الصليبية إنما أذكى المسيحيون -ولم يذك المسلمون- لهيبها، ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل، وتحارب، وتريق الدماء وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح -كما يزعمون- يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس، والبلاد المقدسة عند المسيحية، وتخريب بلاد الإسلام.
أفكان هؤلاء البابوات جميعاً هراطقة، وكانت مسيحيتهم زائفة؟! أم كانوا أدعياء جهالاً، لا يعرفون أن المسيحية تنكر القتال على إطلاقه؟! أجيبونا أيها المبشِّرون والمستشرقون المتعصبون!
فإن قالوا: تلك كانت العصور الوسطى عصور الظلام -عندهم- فلا يحتج على المسيحية بها، فماذا يقولون في هذا القرن العشرين الذي نعيش، والذي يسمونه عصر الحضارة الإنسانية الراقية؟!
لقد شهد هذا القرن من الحروب التي قامت بها الدول المسيحية، ما شهدت تلك العصور الوسطى المظلمة -عندهم- بل أشد وأقسى! ألم يقف اللورد اللنبي ممثل الحلفاء؛ إنجلترا، وفرنسا وإيطاليا، ورومانيا، وأمريكا، في بيت المقدس في عام 1918م، حين استولى عليه في أخريات الحرب الكبرى الأولى قائلاً: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»؟!
وألم يقف الفرنسي غورو، ممثل الحلفاء أيضاً، وقد دخل دمشق، أمام قبر البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي، قائلاً: «لقد عدنا يا صلاح الدين»؟!
وهل هدمت الديار، وسفكت الدماء، واغتصبت الأعراض في البوسنة والهرسك إلا باسم الصليب؟
بل أين هؤلاء مما حدث في الشيشان، وما زال يحدث في أفريقيا وغيرها؟ وهل يستطيع هؤلاء إنكار أن ما حدث في كوسوفا كان حرباً صليبية؟
إن الإسلام إنما غزا القلوب وأسر النفوس بسماحة تعاليمه؛ في العقيدة، والعبادات، والأخلاق، والمعاملات، وآدابه في السلم والحرب، وسياسته الممثلة في عدل الحاكم، وإنصاف المحكومين، والرحمة الفائقة، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح، إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس، واستجابت إليه الفطرة السليمة، وتحملت في سبيله ما تحملت، فاستعذبت العذاب، واستحلت المر، واستسهلت الصعب، وركبت الوعر، وضحت بكل عزيز وغالٍ في سبيله.
____________________
من كتابه «السيرة النبوية».