مع اقتراب عودة الموسم الدراسي في عديد من الدول العربية، وانطلاقه في بعضها، يتصدر تأهيل الأطفال نفسياً وذهنياً أولوية اهتمام أولياء الأمور، باعتبار أن فترة الدراسة هي أهم مراحل حياة أطفالهم، التي تساهم في تنمية قدراتهم ومهاراتهم وشخصيتهم، وتمكنهم من التعلم والتفاعل والإبداع.
لكن فترة الدراسة تحمل أيضاً بعض التحديات والصعوبات التي قد تؤثر على نفسية وذهنية الطفل، خاصة عند بدء أو استئناف العام الدراسي بعد فترة من الانقطاع أو التغيير، فقد يشعر الطفل بالقلق أو الخوف أو الضغط أو الملل أو الكسل أو عدم الثقة بالنفس؛ ما ينعكس سلباً على مستواه التعليمي وصحته الجسدية والنفسية.
ولذا، يحتاج الطفل إلى تأهيل نفسي وذهني يساعده على التأقلم مع المتطلبات والظروف الدراسية، ويزيده اندفاعاً وحماساً وتحملاً للمسؤولية؛ بما يجعله مستمتعاً بالتعلم ومحققاً للنجاحات.
مهمة ثلاثية
ويشارك في هذا التأهيل كل من المربين والمعلمين والأصدقاء، كل بحسب دوره ومسؤوليته، حسبما أوصت دراسات علمية متخصصة، تناولت أولويات الأطفال في هذه الفترة من العام وطرائق فهمها، وأكدت أن تلك الأولويات تتغير باختلاف مراحل نمو الأطفال وبيئتهم.
فبعض الأولويات تكون مادية؛ مثل احتياجات الأطفال الغذائية والصحية والأمنية، وبعضها تكون اجتماعية؛ مثل احتياجاتهم للانتماء والقبول والصداقة، وبعضها تكون نفسية؛ مثل احتياجاتهم للاستقلالية والثقة بالنفس.
كما أن طرائق فهم الأطفال لأولوياتهم تختلف باختلاف مستوى ذكائهم وخبراتهم وثقافتهم، فبعضهم يستطيعون تحديد أولوياتهم بشكل صحيح، وبعضهم يخطئ في ذلك، وكذلك يستطيع بعضهم ترتيب أولوياتهم حسب درجة الأهمية، وبعضهم يختارها ويرتبها بشكل عشوائي.
في هذا السياق، تشير دراسة أجراها الأستاذ في كلية هارفارد للأعمال، روبرت كابلان، عام 2019م، إلى أن الأطفال في هذه المرحلة يحتاجون إلى تلبية احتياجاتهم البيولوجية، مثل الغذاء والماء والنوم والحركة، لضمان نموهم الصحي، إضافة إلى تلبية احتياجاتهم الاجتماعية، مثل التعلق بالآخرين والشعور بالانتماء والقبول، لضمان تكوينهم لعلاقات إيجابية.
كذلك يحتاج الأطفال إلى تلبية احتياجاتهم النفسية، مثل التعبير عن الذات والثقة بالنفس والإبداع، لضمان تطورهم الشخصي.
واعتمد كابلان، في دراسته، على تحليل أولويات الأطفال في سن الطفولة المبكرة (من 3 – 6 سنوات)، وقسمها إلى 3 فئات، هي: الأولويات البيولوجية، والأولويات الاجتماعية، والأولويات النفسية.
3 مستويات
وسبق كابلان دراسة أخرى نشرها الأستاذ بجامعة ليفربول ديفيد وايت، عام 2018م، وحلل فيها طرائق فهم الأطفال لأولوياتهم في سن المدرسة (من 6 – 12 سنة)، عبر تقسيم ثلاثي آخر: المستوى الملموس، والمستوى المجرد، والمستوى المعقد.
وتوضح الدراسة أن الأطفال في هذه المرحلة يستطيعون فهم أولوياتهم بشكل أفضل من المرحلة السابقة، لكنهم يختلفون في قدرتهم على التفكير بشكل مستقل أو نقدي.
فبعض الأطفال يفهمون أولوياتهم على المستوى الملموس؛ أي بالاستناد إلى ما يرونه أو يسمعونه أو يشعرون به، وبعضهم يفهمون أولوياتهم على المستوى المجرد؛ أي بالاستناد إلى ما يعرفونه أو يتخيلونه أو يخططون له، وبعضهم يفهمون أولوياتهم على المستوى المعقد، أي بالاستناد إلى ما يفكرون فيه أو يحللونه أو يقارنونه.
وفي دراسة ثالثة، أجرتها الأستاذة بجامعة كولومبيا البريطانية، سارة جراي، ونشرت في عام 2020م، حللت تأثير الثقافة على أولويات الأطفال وطرائق فهمها في سن المراهقة (من 12 – 18 سنة)، وقارنت بين 3 ثقافات مختلفة: الأمريكية والصينية والعربية.
وتوضح الدراسة أن الثقافة تؤدي دوراً مهماً في تشكيل أولويات الأطفال وطرائق فهمها، حيث تنعكس عليها القيم والمعتقدات والتقاليد والتوجهات السائدة في كل ثقافة.
فبعض الأولويات تكون مشتركة بين جميع الثقافات، مثل احتياج الأطفال للحب والاحترام والسعادة، وبعضها تكون مختلفة أو متناقضة بين بعض الثقافات، مثل احتياجاتهم للحرية والتنوع والابتكار، أو للانضباط والانتظام والانسجام.
كما تختلف طرائق فهم الأطفال لأولوياتهم باختلاف التأثيرات التي تتعرض لها من عائلاتهم ومجتمعاتهم وإعلامهم، بحسب الدراسة.
لكن كيف يمكننا تأهيل الطفل نفسياً وذهنياً لاستئناف الدراسة؟ ستبدو الإجابة ماثلة إذا كان لدينا فكرة عامة عن أولويات الأطفال وطرائق فهمها، وفق خلاصات الدراسات السابقة، إذ يمكننا حينئذ أن نستخدمها في تأهيلهم نفسياً وذهنياً لاستئناف الدراسة.
ولهذا الغرض، توصي الدراسة بالتحدث مع الطفل عن أهمية الدراسة والتعلم في حياته، وكيف تساعده على تحقيق أولوياته المادية والاجتماعية والنفسية، وتزويده بالمعرفة والمهارات التي يحتاجها في المستقبل.
وفي هذا الإطار، يمكن لأولياء الأمور استخدام بعض الأساليب التحفيزية، مثل إظهار نماذج ناجحة من أشخاص يحبهم أو يحترمهم الطفل، أو إبراز فوائد الدراسة على حياته الشخصية والمهنية، أو إشراكه في اختيار مساره التعليمي أو مشروعه المستقبلي.
كما توصي جراي بتشجيع الطفل على تحديد أولوياته الدراسية، مثل المواد التي يحبها أو يجيدها أو يحتاج إلى تحسينها، والأنشطة التي يرغب في المشاركة فيها، والأهداف التي يود تحقيقها.
ولتحقيق ذلك، يمكن استخدام بعض الأساليب التفاعلية، مثل إجراء مقابلات أو استبيانات أو اختبارات مع الطفل، أو تنظيم جلسات حوارية أو نقاشية مع زملائه أو معلميه، أو تقديم استشارات أو إرشادات له.
أولويات الدراسة
وتنصح جراي أيضاً بمساعدة الطفل على ترتيب أولوياته الدراسية حسب درجة الأهمية، وتعليمه كيف يخصص وقتاً كافياً لكل منها، وكيف يستغل فرص التعلم المتاحة له، سواء في المدرسة أو في المنزل أو في البيئة المحيطة به.
كما يمكن استخدام بعض الأساليب التنظيمية، مثل إعداد جدول زمني أو خطة عمل للطفل، أو تزويده بالأدوات والموارد التي تساعده على تنفيذ أولوياته الدراسية، مثل الكتب والقصص والألعاب والبرامج التعليمية، وتشجيعه على استخدامها بشكل مستقل أو بالتعاون مع الآخرين.
وتشير جراي، في هذا الصدد، إلى أهمية مراقبة تقدم الطفل في تحقيق أولوياته الدراسية، وتقدير جهوده وإنجازاته، وتصحيح أخطائه بطريقة لطيفة ومشجعة، واستخدام بعض الأساليب التقويمية، مثل إجراء اختبارات دورية أو نهائية للطفل، أو إظهار نقاط قوته وضعفه في كل مادة أو نشاط، أو منحه درجات أو شهادات أو جوائز تحفزه على التحسن.
ومن شأن تأهيل الطفل نفسياً وذهنياً لاستئناف الدراسة أن يسهم في تحسين مستواه التعليمي، من خلال تزويده بالمعرفة والمهارات التي تناسب احتياجاته وإمكاناته، وتحفيزه على التعلم المستمر والبحث العلمي، إضافة إلى تنمية شخصيته والمساهمة في تكوين علاقاته، من خلال تشجيعه على التواصل والتفاعل مع الآخرين بشكل صحي وسليم، وتعليمه كيف يحترم ذاته والآخرين والقوانين والأخلاق.
إن تحقيق سعادة أطفالنا، من خلال إشباع احتياجاتهم المادية والاجتماعية والنفسية، عملية مستمرة وشاملة، تستند إلى فهم أولوياتهم ودعم تحقيقها بإشراك المعنيين معهم؛ من مربين ومعلمين وأصدقاء.