بعدما تكلل مشروع الهجرة النبوية بالنجاح، جعل الوجود الإسلامي ينمو ويتطور ويتوسَّع شيئاً فشيئاً استجابة للتحديات، وتجاوباً مع النصوص الحافزة على الحركة الدؤوبة والانتشار بالدعوة بين مختلف الأقطار، بينما شرعت حركة النفاق في تدشين مشروعها الذي يستهدف إعاقة الأمة عن بلوغ غايتها الاستخلافية كلما أحزرت الأمة إنجازاً، أو حققت تقدُّماً في أي من مجالات الحياة الجديدة.
وعبر العصور التالية، كانت حركة النفاق تتخلق في قوالب وصور شتى، متخذة من أيديولوجيتها المعيقة منطلقاً للنشاط الساعي إلى تشويه الإنجازات والتشكيك فيها، والتقليل من قيمتها، وتخذيل الجماهير عن نصرة مشاريع التجديد الديني وما يستتبعها من تطورات حضارية ومدنية على مختلف مسارات الحياة.
والذين يقرؤون التاريخ جيداً، يدركون أن تلك المحاولات ما هي إلا حلقة من تاريخ التدافع بين الإسلام وخصومه الذي لم يتوقف حتى كتابة هذه السطور.
العالمانية والتراث الإسلامي.. ومعركة المفاهيم:
ولكي نقف على مركزية إطلاق نيران الحروب العالمانية تجاه التراث الإسلامي، اعتاد العالمانيون العرب على النظر إلى الوحي باعتباره تراثاً، وكذلك عَـدُّوا صحيح السُّنة المتواترة وما يتعلق منها بجوهر الرسالة؛ عقيدة وعبادة وأخلاقاً، من التراث الإسلامي كذلك؛ وهو توصيف متعارف عليه بين أوساط العالمانيين، على خلاف الحقيقة، كمنطلق لتسهيل مهمة الحرب وجني المكاسب من خلال التمدد في فراغات العقل المسلم، واستثمار فترات الخمول الحضاري وما يستتبعه من تقاعد السلطة السياسية عن واجبها تجاه حراسة الدين.
ونود في هذا السياق أن ننطلق من مفهوم تجريدي للتراث؛ وذلك لأنَّ مفهوم التراث في حد ذاته كان أحد مداخل العالمانية العربية إلى نقد بنية التراث الإسلامي ونقضها بالكلية، توسلاً بوضع مفاهيم محدثة لهذا التراث.
والمفهوم المتعارف عليه للتراث بين الأمم مفهوم أصلي وكلي، يلخص منظومة القيم والمعتقدات، والعلوم والآداب والفنون والمعارف، وإنه لا يختلف عاقلان على أنَّ التراث عبارة عن حصيلة الجهود البشرية المادية والمعنوية الناتجة عن تفاعلات الخبرات المتراكمة عبر العصور، وإن هذا التراث يلخص شهادة التاريخ على الأمم والشعوب، وإنه مدونة أحوالها وعوائدها وأعرافها وتقاليدها، وهو مؤشر أدائها الحضاري على مختلف المسارات الدينية والأخلاقية والسياسية والحضارية.
إنَّ التراث الإسلامي في مجمله ليس مقدساً ولا يمكن لمسلم أن يعتبره كذلك؛ والأهم من ذلك التأكيد على أن القرآن الكريم وصحيح السُّنة التي تلخص حياة النبي المرسل ليست تراثاً بالمفهوم التاريخي، وإنما هما مصدر الإلهام الذي استقى منه هذا التراث وجوده وتراكماته عبر العصور.
ويتميز تراثنا عن غيره بأنه تراث متلازم المكونات، باعتباره منظومة حية متراكبة الأجزاء متراكمة البنى، ومتداخلة الوظائف والمهام والأدوار المتنوعة بتنوع متطلبات الحياة في كل جيل ورعيل، لكنَّ هذه المكونات تبقى، على وجه العموم، مشدودة إلى أصل واحد؛ هو الوحي، العقيدة فيه مصدر التزام صارم تجاه المسؤوليات الاستخلافية الواجبة، والتكاليف المفروضة، والجهود المتعينة على الأمة المسلمة؛ أفراداً وجماعات، شعوباً ونظماً وحكومات.
ولعل هذه الحيثية الصارمة هي أحد الدوافع التي حدت بأحد عتاة العالمانيين العرب، أدونيس، يسعى إلى خوض هذه الحرب من مدخل المفاهيم والتعريفات؛ حيث يسعى إلى تفكيك مفهوم التراث الإسلامي وفقاً لما تواضعت عليه الأمة عبر العصور، ليصل في نهاية إلى غاية مفادها أنه ينبغي استبعاد مفهوم الأصل والجوهر من عملية توصيف التراث الإسلامي، سواء كان الأصل الاعتقادي أو الأصل العلمي المعرفي، أو الأصل التاريخي التسلسلي.
فإن أول ما يجب نقده هو مفهوم التراث نفسه، فرغم غموضه يُنظَر إليه بمثابة جوهر أو أصل لكل نتاج لاحق، وإنه لا يصح النظر إلى التراث إلا من منظور الصراعات الثقافية والاجتماعية التي شكلت التاريخ الإسلامي، ووفقاً لهذا المنظور لا يصح القول: إنَّ هناك تراثاً واحداً؛ وعلى هذا، فإن ما نسميه تراثاً ليس إلا مجموعة من النتاجات الثقافية التاريخية التي تتباين حتى درجة التناقض.
ومن أجل فهم خلفيات المواقف العالمانية من الإسلام وتراثه، وحتى يمكننا تفسير استماتة العالمانيين العرب بغية تفكيك هذا التراث وتجزئته، بغرض تجريده من قوته وتسهيل هدمه وإزالته من حياة الناس ووجدانهم، يتعين تحديد الأرضية التي ينطلق من العالمانية على أضواء ما لقنوه عن مدونات الهيمنة الغربية، والذي يقرر أننّا حين نكون بصدد شأن من شؤون الحياة، فإنه يجب استبعاد الدين، وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها؛ ومن ثَمَّ فالعالمانية هي نظام يعتمد على قانون يقول: إن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تتحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشة دون الرجوع إلى الدين!
والعالماني يرفض نظرياً كل شكل من أشكال الإيمان الديني، ولا يقبل إلا الحقائق والتأثيرات المستمدة من الحياة الدنيوية الحالية، فهو يؤمن أن التعليم ومسائل السياسة المدنية الأخرى ينبغي أن تدار دون إدخال عنصر ديني.
وقد قصدت إلى تصدير المقال بهذا المفهوم المسترسل، لأنه سوف يوفِّر علينا جهوداً كبيرة في تفسير خلفيات المواقف العالمانية العدوانية من تراثنا الإسلامي، بل سيساعدنا في تحصيل استنتاجات مريحة في سياق تقييم هذا المواقف، بعيداً عن الاتهامات الانفعالية أو الاستغراق في البحث عن مكنون النوايا تجاه الإسلام وأهله.
إنَّ العالمانية العربية، من حيث المبدأ، تعيش خصومة مستدامة مع التراث، وفي قطيعة يائسة مع الدين كافة، وهي في ذلك قد فاقت العالمانية الغربية في عدائها للدين، وفي موقفها من التراث الإنساني.
ولعل مبعث تلك الخصومة الحادة إنما يرجع تارة إلى تأثُّر العالمانية العربية بمعطيات التجربة المريرة التي خاضتها الشعوب الأوروبية تحت هيمنة الكهنة، الذين كانوا يجمعون بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية خلال الحقبة القروسطية، وتارة لأن في الدين، في الفكر الغربي، عائقاً عن النهوض والتطوير والتجديد، وتارة أخرى لأن بُعد المدى الزمني الفاصل بين الأجيال الحديث والمعاصرة وتجليات التجربة الحضارية الإسلامية التي ازدهرت بها مشارق الأرض ومغاربها يجعل من السهل التشكيل في التراث الذي أنتجها والنيل من القيم التي ضمن استمرارها في التألق والحضور ما يربو على ألف من السنين.
لماذا يعد التراث الإسلامي هدفاً للعالمانية العربية؟
من المهم التنويه بأننا لسنا في موقف دفاع عن التراث الإسلامي، إنما هو بيان الحقائق للأجيال التي غَمَّتْ عليها الحقائق، بل جعلت تتسلل إليها الشكوك حول جدوى التراث في برامج النهضة المنشودة ومشاريع البعث الحضاري، وهي شكوك ليس في الواقع ما يعززها أو يصدِّقُ عليها، بل لا تنطوي على أي قدر من الوجاهة.
ولقد كان التراث الإسلامي هو الهدف الأول من تلك الحروب، باعتباره الوعاء الذي يحتوي كامل التجربة الحضارية الإسلامية بكل مقوماتها الإيمانية ومقدراتها الروحية، وممكناتها الثقافية في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية بوجه عام، بينما كانت الغاية هي تفريغ الأمة من محتواها الحضاري وإعادة شجنها، جزئياً أو كلياً، بمحتوى حضاري وثقافي غريب مستورد من مصانع مركز الهيمنة والاجتياح والاحتلال الغربي.
واستناداً إلى قوانين المعطيات التاريخية، يكاد المرء يجزم، بغير تردد، أن العالمانية العربية الحديثة والمعاصرة هي امتداد طبيعي لتلك الحركات النفاقية التي يسوؤها استرداد الإسلام عافيته واستعادة قواه، من خلال إعادة توظيف كافة ممكناته الحضارية، وفي طليعتها ذلك التراث الذي يمثل أساساً للبناء الحضاري ومنطلقاً سديداً نحو استئناف دورة جديدة من الوجود الإسلامي المتميز بتكامل خصائصه ومقوماته ومكوناته!
ومن ثَمَّ، كانت الحروب ولم تزل منصبة ومنصوبة باتجاه هدف إجهاض الثقة في تراث الأمة وتراكمات خبرتها في مختلف المجالات، لكن الأمة كانت بعد كل حرب تتجاوز آثارها بكل صمود وثبات.