لماذا يفعلون هذا؟ لماذا هذا الإصرار الأبله البليد على فعلٍ كهذا؟ أليس من اللافت للنظر أنّ يتكرر منهم هذا الفعل وهم سادرون غيرُ آبهين بآثاره العكسية؟ كيف لم يخطر ببالهم أنّ سلوكهم الخشوم الطائش هذا تجاه المصحف الشريف سيثير التفكير ويبعث الفضول من مكمنه؛ ليقع ما لا يتوقعونه من إفاقة الخلق إلى الحق لدى وقوعهم على آيات القرآن الكريم؟ كيف لم يفكروا هذا التفكير ويقدروا هذا التقدير؟ وهم أرباب التفكير والتقدير والتدبير، لا يوجد جواب على هذا إلا أن نقرر -ونحن مطمئنون- أنّ الحقد أعماهم، وأنّ الحسد أضناهم، وأنّ سواد قلوبهم غشّى على ذكاء عقولهم، هذه هي الحقيقة الفاضحة، وإن اجتهدوا في الخصف عليها من التبريرات والتسويغات، التي لا تروج في فضاء المعاذير إلا بقدر ما يروج في السوق فِلْسٌ أبلاه الكساد وأكله الرماد.
أهذه حرية أم همجية؟
ليست حريّة تلك التي يختبئون خلف سرابها، وهم يمارسون ذلك الدجل، ليست حريّة ولو تعلقوا بأستار تمثال الحرية وأقسموا على ذلك بكل إله هم عابدوه؛ ليست حريّة ولو قام من قبره جون ستيوارت ملْ فصاح في جون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم فوقفوا جميعًا يشهدون لمن يحرق المصحف بأنّه يمارس حريّة التعبير؛ لأنّ هؤلاء وأمثالهم هم الذين انحرفوا بمعنى الحرية وشوهوا معالمها؛ حتى صارت لا علاقة لها بالحرية التي من أجلها قامت الثورات المعاصرة في الغرب: الإنجليزية ومن بعدها الأمريكية والفرنسية، وحتى انحصرت في صورتين قائمتين جاثمتين وما عداهما سراب خادع ووهم كاذب، كل من الصورتين تدعم الأخرى وتغذيها، وكل منهما لا تستغني عن الأخرى ولا تفرط فيها.
الأولى: حرية الرأسمالي في أن يستثمر المال كما يشاء ويستحمر الخلق كما يريد، والثانية هي هذه الحرية الرخيصة التي يشغلون بها الدهماء ويلاعبون بها الغوغاء، والتي بها يَغرَقُ الخلق في بحر من الشذوذ والمثلية والتفسخ والانحلال، بحرٍ لجيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، وبطرف من هذه الحرية الزائفة يمارسون ذلك الرقص الرخيص الهابط، بإهانة المقدسات الإسلامية، تارة بالإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة أخرى بإهانة المصحف الشريف وإحراقه، هذا سوى حملات التشويه للإسلام ومعالمه في وسائل الإعلام وفي مراكز الأبحاث وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.
حالةٌ نفسيَّة وظاهرةٌ مَرَضِيَّة
يحدث هذا والمسلمون هم المقهورون المعتدَى عليهم، فلو أنّ حرْقَهم للمصحف جاء في سياق ردّ الفعل تجاه نازلةٍ حلّت بهم وكان المسلمون طرفًا فاعلا فيها؛ لساغ أن نقول إنّه مجردُ تنفيسٍ لكنّه جاء على طريقة الطفل الذي يسكب كوب اللبن على ثوبه عامدًا لكون أمّه حرمته من لعبة تعلق بها هواه، غير أنّ هذا السخف يقع منهم والمسلمون يصطلون بنار الفتنة، التي أشعلتها الأنظمة الموالية لهم بتدبيرهم وتقديرهم ورعايتهم وببعض أسلحتهم؛ وإِذَنْ فالبحث عن الأسباب يجب أن يتجه إلى أمر يتعلق بمخاوفهم من القرآن، وعلاقة ذلك بافتقاد اليقين العلميّ الذي صار عندهم ماردًا فكريًّا مخيفًا.
فإذا فحصنا هذه الجهة وجدناهم يسبقوننا إلى استقراءات واستطلاعات تؤكد أنّ الإسلام هو الأسرع نموًّا وانتشارًا على حساب كل الأديان، وأنّه هو – حصرًا – المؤهل لوراثة الحضارة المعاصرة، تلك الحضارة التي تؤكد دراساتهم الموثقة أنّها إلى الأفول تتجه وإلى الغروب تمضي، فإذا أضفنا إلى ذلك أنّ دراساتهم الاستشراقية لم تستطع أن تتوارى عن حقيقة أَرْسَى وأشمخ من الجبال، وهي أنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي عبر القرون دون أن يُغَيَّرَ من حرف أو تُبَدَّلَ منه كلمة، ثم رأوه تجاه الفكر الغربي المنحرف يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق؛ علمنا وأيقنَّا أنّ هذه الرعونة ليست سوى رقصة المذبوح؛ فيا للعجب من مشهد يُشْنَق فيه الجبار المدجج بالسلاح بخيط من حرير!
نحن أم هم؟ سؤال المسؤولية والأمانة
بعد أنْ تأكد لهم أنّ الكتاب المقدس عندهم لا سند له يعدل -من حيث الموثوقية- سند حديث ضعيف في الإسلام، وبعد أن تبين لهم أنّ اتباعهم لما في هذا الكتاب من تصورات يعني الرجوع بالعلم إلى ما قبل جاليليو، وكوبرنيكس، وروجر، بيكون، وبعد أنْ أيقنوا بصحة ما قاله مراد هوفمان في كتابه الرائع «الإسلام في الألفية الثالثة»: «يغفل الغرب عن حقيقة وهي أن الإسلام يهدف إلى أن يعيد المسيحية لتقف على قدميها بدلا من الوقوف على رأسها، وأن الإسلام يمكن أن يكون ذا نفع هائل لإعادة الصحة إلى الحضارة الغربية»؛ وبعد أن صَدَّقَ كبارُ آبائهم مقولة مايكل هارت في كتابه الخالد «الخالدون مائة أعظمهم محمد»: «والقرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملاً، وسُجلت آياته وهو ما يزال حيًّا، وكان تسجيلًا في منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد، وليس في المسيحية شيء مثل ذلك»، بعد هذا كلِّه ما زالت الحاجة ماسّة لأن تؤلف زجريد هونكة كتبًا مثل كتابها «الله ليس كذلك»؛ لتزيل لكثير من الغربيين عُقَدَهم الاستعلائية تجاه المسلمين والإسلام.
نحن إذنْ بحاجة إلى أن ندرك موقعنا في هذا الوجود، بحاجة إلى أن ندرك -على نحو باعث مؤثر- قيمة هذا الكتاب الذي يحرقه الغرب غيظًا وكمدًا؛ لا يليق بنا أن نكون آخر من يعلم أنّ القرآن يمثل -بقِيَمه وتعاليمه ونُظُمه أحكامه وبما يشتمل عليه من حق ناصع- أعظم تهديد للباطل ولأهل الباطل، إنّنا بحاجة لهذا الإدراك الباعث المحرك، الإدراك الذي يورثنا يقينًا وثباتًا وقوة ونشاطًا على نحو معجز، كذاك الذي تحقق للجيل الأول، الذي غير وجه الدنيا في أقل من ربع قرن من الزمان.
وإذا كانت الأحزان قد طوقتنا وأحاطت بنا؛ فإنّ وراء ظلمتها بشائرُ فجر قريب، لعل منها هذه الرعونة التي يتعامل بها الغرب مع مقدساتنا، والتي تُنْبِئُ عن توتر وإفلاس وتشي بحالة من الخوف والإبلاس، ولنحاول بجد وإصرار أن ندفع الحزن بالفرح، أجل.. الفرح بفضل الله علينا بهذا الكتاب العزيز: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).