كان الجو مشحوناً بالتحدي، مفعماً بالتأهب والاستعداد، ومراجعة الحسابات في كل شيء، وقطع دابر الشك في كل صغيرة وكبيرة، وكان سد الثغرات.. كل الثغرات.. هو الشغل الشاغل للجميع، كل من الفريقين يحدّ حدَّه، ويحفز جنده، وكان الملك، كما هو العهد به دائماً، يأخذ كل شيء مأخذ الجد، ويعد لكل أمر عدته، ويحتاط لكل صغيرة وكبيرة، بما هي أهله، وأكثر مما هي أهله، مائة مرة، حتى حوافر خيوله، كان يطمئن عليها واحدة واحدة.. ويحاسب السائس المكلف بذلك عليها.. مسمارًا مسماراً.. متأكداً أن كل مسمار فيها قد تم دقه بعناية وإتقان.
ووسط حوامات التحفز والتوفز.. والتأهب والتوثب.. أرسل الملك إلى سائس خيله، لينظر شأن حصانه الخاص «المغوار».. هذا الحصان الذي لو استطاع الملك لعد شعره.. شعرة شعرة.
كان الملك يحمحم مع هذا الجواد إذا حمحم، ويصهل إذا صهل، فكلاهما نفس واحد في الصراع والقراع، والكر والفر.. لا تدري من منهما انتصر على الأعداء، ولا من منهما انهزم، الفرس والفارس شيء واحد.. ولا تدري لمن تكون الجولات.. الحصان أم من يمتطيه؟!
وكما هو معروف بين الرعية، حصان الملك، ملك الأحصنة.. جواد الملك، ملك الجياد «المغوار»!
أمر سائس الملك الحداد، أن ينتهي بسرعة البرق من مراجعة نعال أرجل الأحصنة الملكية، ومراجعة دق مسامير أحذيتها بكل عناية وأن يفرغ للجواد الملكي الخاص.. عنوان النصر الوحيد!
انتحى ذلك السائس بهذا الحداد الماهر، وأطلق معه شعاع عينيه اللامعتين كلمعان شعر الحصان الذهبي البراق، وبدأ الحداد يتغزل وهو يدق مسامير نعال حصان الملك، وبدأ سائس الملك يدق عيونه في حوافر الحصان مع كل مسمار يدقه الحداد، وكأنه يقرع طبل المعركة.
آه.. لقد وقعت الواقعة، لقد كفت الأحذية والمسامير الملكية كل النعال.. إلا نعلاً واحداً لرجل الجواد الخلفية اليسرى، تلك التي قصرت دونها نعال الجياد الملكية الخاصة بـ«المغوار» وسط آلاف النعال التي يدقها الحداد للجياد الملكية الأخرى.
ألا تقع تلك الأزمة إلا مع «المغوار»؟! وفي تلك الساعة؟!
يا له من حظ عسر، فإن للمغوار نعاله الخاصة، ومساميره الخاصة، وفارسه الخاص، إنه ملك الجياد.. و«المغوار» لا يكذّب لهؤلاء جميعا خبراً إذا انطلق في المعركة، تطاير وهج الصخور تحت ضرباته القداحة.
إنه المغوار.. الجواد الكرار.. ملك المواقع والميادين، استأنى الحدادُ السائسَ قليلاً حتى يأتيه بنعل جديدة.. نهره السائس بشدة.. وكاد يفتك به.. إنه حصان الملك.. إنه «المغوار».. إنه حديث الإنس والجن.. قبحك الله من حداد وضيع.. يا لك من حداد غبي!
قال الحداد في نفسه: طبعاً حياتي.. مقابل مسمار في نعل حصان!
صرخ السائس: أسرع.. وإلا دفعت رأسك مقابل هذا النعل.
اضطر الحداد على عجل أن يختطف نعلاً قديمة من مخازن نعال الجياد.. رآها مناسبة لحصان الملك.. وأخذ يثبتها جيداً، على نحو من الإتقان المعهود الذي ينشده الملك في كل أمر، إلا أن ذلك النعل كانت مساميرها الملكية غير كافية على التمام، فقد تبقى فيها مسمار واحد.. حار الحداد دون وجوده.. فأراد أن يستمهل السائس هنيهة أخرى، عله يجد مسماراً بديلاً، أو يصنع له مسماراً على عجل.. يناسبه.. ويسد تلك الثغرة الغريبة الطارئة.
نفخ السائس نار أنفه وفمه في وجه ذلك الحداد.. سائلاً: ألا تستطيع أيها الجهول أن تدق مسماراً أخرى؟! ألا أخذت في اعتبارك أي بديل للمسامير الملكية؟!
قال الحداد مرتجفاً: لا.. ومن يستطيع في الرعية كلها.. وفي طاقم الخدمة الملكية كلها.. أن يدعي أن مسماراً آخر يمكن أن يكون مسماراً ملكياً، أو نعلاً آخر يمكن أن يكون نعلاً ملكياً.. إنها حصرية على «المغوار».. وعلى «الملك».. ولا أحد يستطيع أن يدعي غير ذلك.
قال السائس: تصرف يا جهول وإلا سأضرب عنقك.
قال الحداد: أفعل إن شاء الله.. أمهلني هنيهة.
قال السائس: يا لك من حمار أحمق! وهل نحن من يعرف الانتظار والإمهال.. ألا تعرف لغة سائس الملك؟! الإتقان.. أو القتل.
لم يجرؤ الحداد أن يقول للسائس: إنك لم تمنحني وقتاً.. ولم تخبرني قبلاً.. لقد فاجأتني بكل هذه الطلبات، بل وفاجأتني بالمعركة التي تدق طبولها.
لكنه قال: على كل.. إن النعال كلها جيدة وجديدة.. إلا تلك الحدوة الأخيرة للقدم اليسرى للمغوار، فإن فيها مسماراً وحيداً دخيلاً
قال السائس بكل تغيظ واستعجال: الخلاصة؟! ألا يصلح «المغوار» للمشي.. والجري.. والمنازلة؟!
أيعوقه أي شيء، أن يراه الملك أو أن يمتطيه ويعدو به كالعادة؟! هل يمكن أن يتعثر الحصان؟!
قال الحداد: لقد أصبح المغوار صالحاً لكل شيء؛ للمسابقة والمغامرة والقتال المرير إلا.. لا قدر الله.. إذا اصطدمت تلك الساق الخلفية اليسرى بصخرة شديدة العتو.. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا أندر من الندرة نفسها..
إذا حدث ذلك.. ربما يحدث لتلك القدم عثرة طارئة..
لكني لم أسمع في كل حروب الملك السابقة أن حدثت مثل تلك العثرة أبداً.
قفز السائس على الجواد، يجربه ويقفز به في الهواء، ويديره للخلف بسرعة جنونية، ويديره حول نفسه، ويوقفه على ساقين خلفيتين، ويعدو به عدواً خيالياً.. ويقفز به على الحواجز.. ويديره عليهما دورتين للأمام والخلف.. كل ذلك دون أن يضع قوادمه على الأرض.. حتى اطمأن عليه تماماً.. ثم أشاح بظهر يده إلى الحداد.. أن انصرف.. قبح الله وجهك!
ثم ذهب ذلك السائس يختال بـ«المغوار» الجسور إلى الملك، ودخل إليه كالريح العاصف، ثم هب واقفا عند قدمه، كأنما صخرة هبطت من السماء بين يديه.
ابتسم الملك.. وأشار للسائس.. فانحنى.. وقفز الملك على الجواد «المغوار»، وبدأت الحرب الطحون.. وما هي إلا لحظات حتى طاحت كفة الملك ومن معه.. ورجحت كفة الأعداء.
إنها الحرب التي لا ترحم.
ارتبكت الصفوف واستحر القتل والذبح والطعن والرمي.
والملك جسور صبور.
و«المغوار» مقدام هصور.
والملك لا يأبه بشيء.. ولا يأسى على شيء.. ولا يبخل عن شيء.. فقد كانت دماؤه تقاتل مع سيفه.. وكان قلبه يكر قبل المغوار.. إنها رأسه؟! ومملكته؟! وأهله؟! إن لم يحمِ رأسه.. قطفت!
وإن لم يحمِ مملكته.. دهمت!
وإن لم يحمِ أهله.. سحقوا!
وأثناء الكر والفر الضروس.. لاح للملك أن ينخلع بأعجوبة بـ«المغوار» خارج الحلبة المتداخلة.. ثم يبدأ هجوماً مفاجئاً من بعيد.. منطلقاً وسط الأعداء كالسهم المارق.
وأثناء تلك المناورة الجسور.. اصطدم حصان الملك بصخرة نكداء، ارتطمت بها قدم الجواد الخلفية اليسرى.. فانقدح الشرر.. واختل توازن المغوار.. واختل توازن الملك معه.. وسقط مذؤوماً وهو يصيح صارخاً مذعوراً:
النجدة.. النجدة..
المغوار.. المغوار..
حصاني.. حصاني..
أهلي.. أهلي..
شعبي.. شعبي..
مملكتي.. مملكتي..
لكن الأعداء لم يمهلوه!
ظل يصيح تحت وطأة الطعن المتكاثر على جسده الممزق.. وأشلائه المتهتكة، وجسد جواده «المغوار» يرتعد من شدة النزف والخوف.
الملك يضيع لضيعة مسمار في نعل حصان!
من أجل حصان فقد الفارس!
من أجل الفارس ضاعت معركة النصر!
من أجل النصر الضائع ضاعت مملكة القوم!
ماذا لو أمهل سائس هذا الملك الحداد قليلاً؟!