أستاذي الفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا وزوجي في مشكلة أرى أنها يمكن أن تدمر حياتنا، وقد نصحنا أحد الإخوة باستشارتكم بعد أن وصل بنا النقاش إلى طريق مسدود.
الحمد لله، أمورنا طيبة وليس لدينا تقريباً مشكلاتنا في علاقاتنا، فزوجي يبذل قصارى جهده للقيام بمسؤولياته كزوج وأب، وكذلك من ناحيتي، فأنا في منتصف الثلاثينيات، وزوجي في الأربعين من عمره، تزوجنا منذ حوالي 15 عاماً ورزقنا الله بثلاثة أولاد (محمود 14 سنة، ووليد 10 سنوات، وهبة 7 سنوات)، ورغم اجتهاد زوجي في عمله، فإننا لا نحيا في رغد من العيش، وتلبية متطلبات البيت والأولاد تمثل همّاً شهرياً لزوجي، ولكننا بصفة عامة نحيا في سعادة ووئام يغبطنا عليها المقربون من الأهل والأصدقاء، كما أننا بفضل الله لا نحرم أولادنا من التنزه والرحلات التي تتناسب مع قدراتنا، وعندما يطلب الأولاد الذهاب للمطعم مثل أصدقائهم أعمل لهم أفضل الطعام بأقل تكلفة ممكنة.
منذ شهر أخبرني زوجي أن صديقه الذي يعمل بالخارج، قد أخبره بأن منصباً مرموقاً براتب متميز متاح بالشركة التي يعمل بها، ويرى أنه كفؤ لهذه الوظيفة، فرفضت الفكرة، فقال: سوف أرسل أوراقي ونفكر معاً، منذ أسبوع دخل عليَّ متهللاً ويكاد يطير فرحاً!
لماذا أُحرم من زوجي؟ وكيف لي أن أقوم بدوره بالإضافة إلى دوري كأُم؟
ماذا بك؟ قال: تم قبولي، فبادرته: تم تعيينك رئيساً لمجلس الإدارة؟! رد: لا.. سأسافر، تم اختياري، ثم أردف معقباً: هل تعلمين كم الراتب؟ فقاطعته وأنا غاضبة: هذا فقط ما فكرت فيه؟! قال: من أجلكم يا حبيبتي نبني بيتاً، نشتري سيارة أحدث موديل، يدخل الأولاد أفضل الجامعات..
فقلت: وأنا والأولاد؟! قال: من حقي إجازة مدة شهر في السنة، ولكنني سأحاول أن أنزل كل ستة أشهر، قلت له: تنزل لمن؟ أنا لا أستطيع تحمل مسؤولية الأولاد بمفردي، فرد: الحمد لله وسائل التواصل الاجتماعي صوتاً وصورة يومياً، وسأتابع معك الأولاد، فقلت: وأنا أهون عليك؟ ألا تخاف عليَّ؟! لماذا تحرمنا من بعض ونحن أحياء؟!
قال: هل تعتقدين أنني لن أعاني من بُعدي عنكم؟ ولكن من أجل أن أعمل مستقبل لأولادنا، ومن أجلك أنت قبلهم، ألم تحلمين بعقد ألماس..؟!
قلت: لم نطلب منك التضحية، نحن ولله الحمد في نِعَم كثيرة، قال: أنسيتِ الآن سهرة أول كل شهر ونحن نجتهد للتوفيق بين متطلبات المعيشة ودخلنا؟ ماذا ندفع وماذا نؤجل؟ قلت: أولادنا يحتاجون لك كأب أكثر من احتياجهم للتوسعة المادية، كما أن محموداً في سن مراهقة ومحتاج من يكون بجانبه في هذه المرحلة الحرجة من حياته، وهل نسيت تعلّق هبة بك؟ ماذا سأقول لها، وهي عادة ما ترفض تناول الطعام مع إخوتها حتى تعود من عملك وتتغدى معك؟
في النهاية، لم نستطع الوصول إلى حل، بل وتعقدت علاقتنا؛ هو يتهمني بقصر النظر وعدم تقدير المسؤوليات التي يتحملها، وأنني أرفض مشاركته في أعباء الأسرة وأتحمل مسؤولية الأولاد مع متابعته من خلال الإنترنت، وأنني لا أقدّر تضحيته.
لا يحق لأحد الزوجين الابتعاد عن زوجه إلا بمرضاته وعن طيب نفس
أستاذي الكريم، حقيقة الأمر أنني مترددة! أحياناً أرى أنها نعمة من ربنا وفرصة العمر، وأجد نفسي مقتنعة بسفر زوجي وأحلم برغد العيش، ولكن سرعان ما أتذكر كيف أعيش دون زوجي؟ الحمد لله أنا مصلية وأعلم كيف أجنب نفسي الفتن، ولكنني بكل صدق أخاف على نفسي، ولماذا أُحرم من زوجي؟ أيضاً مسؤولية الأولاد ومتابعتهم، خاصة أن زوجي والد مهتم بأولاده ومتابعتهم وعلاقتهم أكثر من ممتازة، وكثيراً ما يصاحبهم في أنشطتهم داخل البيت وخارجه، وكيف لي إن وجدت الوقت أن أقوم بدوره؟ بالإضافة إلى دوري كأم.
لقد اتفقنا أن نستشيرك وأن يرتضي كل منا برأيك، فبماذا تنصحنا؟
التحليل
بداية، يجب بيان التفريق بين الحقوق الشرعية التي يجب أداؤها والمباح الذي يمكن الاجتهاد فيه، إن ضرب الزوج في الأرض سعياً لطب الرزق ومن متطلبات قوامته، وهذا فرض عليه، ولكنه ليس الفرض الوحيد، فهناك حقوق أخرى عليه لزوجته، لا تقل أهمية، بل قد تزيد، فمن حقوق الزوج على زوجه إعفافه سواء عاطفياً أو جنسياً، وأداء هذا الحق منوط برقبة الزوج، فإن قصر الزوج في النفقة على زوجته -أي كان سبب التقصير- فقد تعوض الزوجة ذلك بدعم من والدها أو أخيها أو مالها الخاص، أما إذا كان التقصير في الارتواء العاطفي أو الجنسي، فمن يعوضها عن هذا الحرمان؟ لذا، لا يجوز شرعاً أن يبتعد الزوج عن زوجه إلا بموافقته وعن طيب نفس.
إن طبيعة الأنثى الحياء والخجل، وتتباين الزوجات في احتياجاتهن الزوجية سواء من الإشباع العاطفي أو العلاقة الحميمية، وكل زوج يعلم احتياجات زوجته، وفرض عليه في حدود قدراته أن يلبي هذه الاحتياجات سواء من حيث المعدل أو الكيفية، وتظل حقوق الزوجة معلقة برقبة زوجها لأنها من الأمانات التي سيسأل عنها؛ لذا فلا يحق لأحد الزوجين الابتعاد عن زوجه إلا بمرضاته وعن طيب نفس.
الاستثمار في الأولاد أَوْلى من الاستثمار لهم وهذا لا يتأتى إلا بالقرب منهم
كما يجب على الزوج عدم الضغط على زوجته حتى توافق، فيمارس ضغطاً نفسياً على الزوجة لتضطر للموافقة سواء خجلاً واستحياء أو درءاً لثورة زوجها أو لومها وتحميلها مسؤولية ما قد يترتب على عدم سفره من أمثلة إضرار الزوجة، التي لا تجوز شرعاً.
كثيراً ما بيَّن الأطباء الآثار السلبية سواء النفسية أو البدنية للتباعد الزوجي، أما مستشارو العلاقات الزوجية والتربية فيحذرون من التباعد الأسري، وأنه من أهم الأسباب التي تؤدي إلى اضطراب العلاقات الزوجية وتحول دون التربية السوية.
تباعد الزوجين
حتى تعم الفائدة -حيث كثرت التساؤلات حول تباعد الزوجين- سيكون المعيار هنا القاعدة الشرعية «درء المفاسد مقدم على جلب المنافع»، و«فقه الأولويات»، و«ما يتم الواجب إلا به فهو واجب».
– إن من المقاصد الشرعية للزواج هو السكينة النفسية للزوجين والتواد والتراحم بينهما؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وهذا لا يتحقق إلا بالمعاشرة الحسنة.
– قيام الزوج بقوامته؛ أي القيام بمسؤولياته تجاه زوجته؛ (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، إن بُعد الزوج يُحدث خللاً بنفسية زوجته، لأنها تتعود على إدارة شؤونها والأولاد، ويتضاءل دور الزوج في إدارة بيته وقد ينحصر في الإنفاق فقط!
– تحميل الزوجة فوق طاقاتها.
– تعرضها للأخطار، فقد تضطر للذهاب بالابن المريض ليلاً إلى المستشفى.
– كذلك الزوج، فإن حرمانه من زوجته يؤثر عليه سلباً نفسياً وعلى قدراته كزوج، والأخطر أن يتعود الزوج على العيش بمفرده، حتى إن بعضهم ينزعج من ضوضاء الأولاد وينتظر عودته من الإجازة.
ارضَ بما قسم الله لك والأَوْلى بذل جهدك في طلب الرزق بجانب زوجتك وأولادك
– يفقد الأب العلاقة الطبيعية بأولاده ويتحول دوره إلى مجرد منفق! فعلى سبيل المثال اتصل أحدهم بي وهو ثائر: «ما هذا العقوق! الولد الذي أنفقت عليه حتى تخرج في أحسن الجامعات، لم يتصل بي منذ طلبه مني تكلفة حفلة تخرجه، وعندما قررت العودة قال أصغرهم: لا تعد حتى تستكمل لي ثمن الشقة وقد أقرته أمه على ذلك»! كان ردي عليه: لقد عققتهم قبل أن يعقوك!
– إن الاستثمار في الأولاد أولى من الاستثمار للأولاد، وهذا لا يتأتى إلا بالقرب منهم.
– ناهيك عن تعرض الزوج للفتنة، ونسأل الله العفو والعافية فقد يسقط أو يتزوج ويضاعف ظلمه لزوجته.
– فقدان الوالد لمتعة التربية ومتابعة نمو أولاده وتطور مراحل حياتهم.
– أما عن الأولاد، فكثيراً من الدراسات أشارت إلى أن السبب الرئيس لجنوح الأولاد عدم وجود محضن تربوي، إن قيام الزوجة بدور الأم والأب ليس فقط تحميلاً فوق طاقتها، بل ظلم فادح لها؛ لأنها غير مهيئة لذلك؛ مما يؤثر دائماً سلباً على الأولاد.
– تعوّد الأولاد للتعامل مع أمهم في كل شؤونهم، وتلاشي دور الأب، وبشعورهم بالنقص خاصة الذكور في المرحلة المتوسطة والثانوية، عندما تحضر أمهم إلى المدرسة إذا ما تطلب الأمر ذلك.
هذه بعض السلبيات التي تتعرض لها الأسرة وأفرادها نتيجة هروب الزوج من مسؤولياته بحجة البحث عن الرزق.
فما بالنا والمشكلة التي نحن بصددها، والمبرر الذي يتعلل به الزوج هو تحسين الدخل وتوفير مستوى من الرفاهية لأسرته؟!
قد يبرر البعض: «إنني أتابع زوجتي والأولاد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي صوتاً وصورة»! يمكن الرجوع لاستشارة بعنوان «التربية عن بُعد»، إن التربية تتم من خلال المعايشة: النموذج واللعب والمتابعة والتوجيه المباشر وغير المباشر.. فكيف حتى إذا اتصل الوالد يومياً عدة ساعات أن يسمي ذلك تربية؟!
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ، فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ، ألا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ» (رواه البخاري، 2554).
رسالتي إلى الزوج الذي يبرر بُعده عن أسرته وتخليه عن مسؤوليته وأمانته التي سيسأله الله عز وجل عنها، أن يتقي الله في نفسه وزوجه وأولاده، يقول المولى عز وجل: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21} وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) (الذاريات)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً) (الإسراء: 31)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الأنعام: 151).
ارض بما قسم الله لك، وبذل جهدك في طلب الرزق الطيب بجانب زوجتك وأولادك والقيام بقوامتك لأسرتك ورعايتها هو الأولى، فاحتياجهم لك كزوج ووالد أهم من التوسعة المادية.
_____________________