صناعة الكراهية لا بد لها من وقود يضمن استمرار وتأجيج هذه الحالة، وهو ما تحرص عليه نخب فرنسية عبر إثارة جدل متواصل حول الإسلام والمسلمين بما يضمن الحضور السياسي لهذه التيارات والأحزاب الشعبوية، آخرها اتهام اللاعب كريم بنزيما بالترويج للأيديولوجية الإسلامية.
حيث زعم رئيس حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا جوردان بارديلا، وهو أيضاً أحد أهم حلفاء المرشحة السابقة للرئاسة الفرنسية مارين لوبان، في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، مع قناة «BFM»، أن «اللاعب الفرنسي كريم بنزيما يدعم ويروج للأيديولوجية الإسلامية».
Jordan Bardella sur Karim Benzema en tenue traditionnelle saoudienne: "Je pense qu'il est un compagnon de route de l'idéologie islamiste" pic.twitter.com/PEE6qrBsui
— BFMTV (@BFMTV) September 24, 2023
جاءت تصريحات اليميني الفرنسي تعليقاً على ارتداء بنزيما الزي السعودي خلال مناسبة احتفال المملكة باليوم الوطني، وقال: «إنه -في إشارة إلى بنزيما- يريد أسلوب حياة إسلامي، لقد ذهب إلى المملكة العربية السعودية»، وأضاف: «إذا تمكن كل من يريد أسلوب حياة إسلامياً من الذهاب إلى الدول الإسلامية، فربما تكون فرنسا في وضع أفضل».
يظهر جلياً تجاهل السياسي اليميني الفرنسي أن كريم بنزيما لم يكن اللاعب الدولي الوحيد الذي احترف مؤخراً في الدوري السعودي، أو ارتدى زي المملكة، فلقد شارك لاعبون مشاهير غير مسلمين الاحتفال بارتداء الزي السعودي مع أنديتهم بالمملكة؛ أمثال البرتغالي كريستيانو رونالدو، والبرازيلي نيمار، وهذا ما أشارت إليه أيضاً تعليقات كثيرة من فرنسيين رداً على تصريحات بارديلا.
عن هذه الحالة، يقول د. محمد الغمقي، الباحث في الشؤون الأوروبية، في تصريحات لـ«المجتمع»: هناك خصوصية في الحالة والعقلية الفرنسية تختلف حتى عن بقية أوروبا في نظرتها للدين، قد يكون لها ارتباط بالكنيسة والبعد التاريخي، فهناك نوع من الحذر يرتبط بالدين في العقلية الفرنسية وتتأثر بها النخب في السياسة والإعلام.
بُعد تاريخي
ويضيف: خلال موجات الهجرة قبل عقود كان الظن أن يكون هؤلاء العمال الذين تم استقدامهم للعمل مجرد عمال، ثم بدأ الحديث بعدها عن فكرة جمع هؤلاء العمال بأبنائهم باستقدام عائلاتهم إلى فرنسا فيما عرف بـ«التجمع العائلي» في السبعينيات، وكان الاعتقاد أن أبناء هؤلاء العمال سيتشربون بالثقافة الفرنسية، وبالفعل بعضهم انصهر في المجتمع، لكن مع ظهور ما يسمى الصحوة الإسلامية التي حدثت ظهر جلياً حرص كثير من المسلمين منهم على الحفاظ على هويتهم الإسلامية، وهذا لم يكن متوقعاً.
لا بد من كبش فداء!
وبالتالي، فمن وقتها بدأت هذه القضايا والأزمات التي تخص المسلمين مثل الحجاب وغيره، وكلما مرت فرنسا بأزمة اقتصادية أو سياسية يتم البحث عما يمكن تسميته «كبش فداء»، ومع ظهور هذه الأحزاب الشعبوية، فإذا كانت هناك أزمة فبالتالي النظرة تكون أن الآخر هو السبب، والآخر هنا هم العرب والمهاجرون والمسلمون.
Regarde la vie qu'on a 🤍 Happy Saudi national day 🇸🇦 pic.twitter.com/6NCYlO1itm
— Karim Benzema (@Benzema) September 23, 2023
الإسلام بوابة للحضور
ويرى الغمقي أن موجة الحديث عن الزي والعباءة الإسلامية مرتبطة بحسابات سياسية وتصاعد موجة الشعبوية التي بدأت تطرق باب الحكم في فرنسا، وأقصى اليمين مشروع سياسي ليس بعيداً كثيراً اليوم عن الحكم، وبما أننا نقترب من موسم انتخابي جديد يكثر الجدل السياسي، وكما تعودنا أن من يتكلم أكثر عن الإسلام والمسلمين في هذا السجال السياسي في فرنسا هو من يستطيع أن يكسب شريحة أكبر وشعبية أكثر في الحملات الانتخابية.
استفزاز مصنوع
وأشار الغمقي إلى أن هذه القناة «BFM» كثيراً ما تحرص في خطها التحريري على مناقشة القضايا التي تخص الإسلام والمسلمين والهجرة، هذه الملفات التي تتسبب في إثارة الجدل صباح مساء، ولذلك يحرص مسلمو فرنسا على تجاهل هذه القناة، فهي كثيراً مثل اليمين المتطرف تحرص على استفزاز المسلمين لإبقاء حالة الجدل والحضور السياسي على الساحة الفرنسية للتغطية على المشكلات الحقيقية كأزمات الاقتصاد والسياسة.
هوس بالإقصاء
ومن جانبه، يقول د. حسام شاكر، الباحث في الشؤون الأوروبية، الاستشاري الإعلامي، لـ«المجتمع»: إن هذه التصريحات تأتي من سياسي فرنسي من أقصى اليمين من خلال القيام بإثارة جدل لا داعي له حول ارتداء لاعب كرة قدم شهير ملابس في لحظة معينة، وهي تشير إلى مدى الهوس الذي تنزلق إليه الساحة السياسية والإعلامية الفرنسية من خلال تعليقات كهذه، لا حاجة لفرنسا بها من الأساس، لكنها تأتي في سياق الضغط الثقافي والمعنوي على المسلمين وإقصائهم وازدرائهم، وأيضاً استغلال بعض المظاهر المسلكية الفردية التي تدخل في نطاق حرية الاختيار والحرية الشخصية، وانتقاء هذه الحالة ومنحها تأويلات ثقافية مغالية بهدف إقصاء المسلمين والضغط عليهم.
انزلاق إلى مزيد من الكراهية
ويضيف: إذا كان الأمر هنا يتعلق بلاعب كرة قدم، فقبل أسابيع كان النقاش بشأن تلاميذ وتلميذات المدارس المسلمين من خلال اختياراتهم من الملابس، بعد أن وقع كل ما جرى في فرنسا من سلسلة من قوانين وإجراءات تتعلق بالحظر على اللباس عبر سنوات مديدة، في تقديري أن هذه الوقائع على بساطتها تظهر أن فرنسا تنزلق إلى ثقافة مزايدة وغلو في التعبيرات وتصيد سلوكيات معينة وتضخيمها ومنحها تأويلات متطرفة أو تأويلات من خطابات يمينية متطرفة في الوسط السياسي.
ويرى شاكر أنه ما كان لهذا السياسي الفرنسي المتطرف أن يعبر عما عبر عنه إلا لوجود ثقافة داعمة لهذا النمط من خطابات في البيئة السياسية والإعلامية الفرنسية التي تبدو اليوم مريضة وسقيمة فيما يتعلق بالشأن المسلم، وفي الواقع فإن هذا التعليق إشارة إلى انزلاق وهبوط إلى قعر جديد تعاني منه بعض النخبة السياسية والإعلامية الفرنسية، دون أن يُواجَه هذا الخطاب بمواقف جادة وأخلاقية وصارمة من الوسط السياسي الذي ينزلق هو بطبيعته إلى هذا الموقف.
«مكارثية» وتنكُّر لقيم الجمهورية
ويختتم شاكر بقوله: إذا ما لاحظنا هذا التصريح سنجد أنه يتماشى مع تعليقات سمعناها من قمة الهرم السياسي الفرنسي من الإليزيه، ومن أعضاء في الحكومة الفرنسية، عبر السنوات والشهور وحتى الأسابيع الماضية؛ وبالتالي هذا مؤشر على مدى التدهور الذي يمكن لديمقراطية معينة أن تنزلق إليه إذا ما استسلمت لثقافة التعبئة والشحن والتحريض والتشويه والمكارثية التي تطارد مكوناً معيناً مطاردة ثقافية، وتضغط عليه، وتحاول أن تتصيد سلوكيات معينة، وتحاول أن تشحن الأمة نحوها بشكل يصرفها عن شواغلها الحقيقية وعن التفكير السوي في الأشياء، وعن التعامل الذي يقوم على الاحترام المتبادل في مجتمع متنوع، ففرنسا مع هذا الانزلاق تتنكر لمقتضيات التنوع والتعددية ولقيم الجمهورية التي تحتج بها مثل الحرية والمساواة.