الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم له شجن خاص، فالخشوع يسري في الكلم وينبع من طيات الروح، هو حب صادق غيبي يمضي في تحنان مع ذكريات الماضي ويرحل في رحلةٍ كهجرته صلى الله عليه وسلم، ولكن ليقطع ألفًا وبضع مئات من السنين، ليستقر في بقعة طاهرة ومسجد مجلل بالطهر والخشوع، مدينته الحبيبة كانت مهاجره وارتضاها عيشاً وموتاً، لها الشعر والقصيد ودموع تهمي إليها من فرط الشوق، أو نزيد قليلًا في مدد الترحال ونعيش مع الحبيب الجميل أيام البطولة والتحدي والدعوة الناشئة تواجه صناديد الباطل، هي رسالةٌ أن هذا الدين لا يقوم إلا بعظيم التضحيات وصلابة المواقف، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- اختار الإيمان والحق أمام مغريات الدنيا وكنوز الأرض، ولو زادوا عليها الشمس والقمر وكواكب الأفلاك ما ترك نبينا هذا الدين أبداً.
وفي إشراقات مولده صلى الله عليه وسلم معانٍ سامية كتب فيها المحبون، واحتفى بجوانبها الربانيون، وهو الفيّاض بالدروس والعبر على الأمة في كل موقف ومنعطف وزمان، فحياته صلى الله عليه وسلم مدرسةٌ شاملة لكل جوانب الحياة البشرية، وهو النبي الإنسان والأب والزوج والقائد والمربي والزعيم والحاكم والسياسي.. ميراثه نورٌ في لجج الغيّ ومدلهمات الحياة.
نختبر في هذا الزمن أشواقًا متعددة، فله صلى الله عليه وسلم تتفطر القلوب حبًا، وما حال عن رؤيته إلا بُعد الدار والزمن، ولكننا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا مشتركًا، لبقعة تحتضن من القداسة والأهمية ما لا يمكن حصره في خاطرة بسيطة، فالقدس كانت قبلة الحبيب الأولى والمسلمين الأوائل معه، وذلك المسجد الأقصى الذي ردف الحرمين قداسةً وأجرًا، ومن يريد أن يعرف عظيم مكانة القدس عليه النظر في الإسراء وذلك الاختيار الرباني في جعلها –أي القدس- جزءًا من التسرية عن نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيها كان استلام زمام قيادة الحضارة والتاريخ.
نردد دائمًا بأن القدس آية من القرآن وجزءٌ من العقيدة، والناظر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يلمس نمطًا عزيزًا من الاهتمام بالمدينة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نحب القدس ومسجدها المبارك، وأن نرفع معيار الاهتمام بها، وأنها مأوى الأبطال والشجعان والطائفة الثابتة على الحق المنصورة بإذن الله، وفيها كان التسليم الأجل وانتقال الراية لسيد الأنبياء وخاتمهم.
أي حبٍّ للقدس هذا الذي عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أجاب السيدة ميمونة رضي الله عنها عن زيارة بيت المقدس! وأي اهتمام دعانا الحبيب المصطفى إليه! ففي هذا الحديث العظيم يدعو رسول الله المسلمين أن يجعلوا حبهم للقدس و«الأقصى» زيتًا ينير فيه جنبات المسجد، فقد روى أبو داود، عن ميمونة مولاة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنها قالت: أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: «إِيتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ -وَكَانَتِ الْبِلادُ إِذْ ذَاكَ حَرْبًا- فَإِنْ لَمْ تَأْتُوهُ وَتُصَلُّوا فِيهِ، فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ».
وهي وصية متقدمة جدًا للدفع نحو الاهتمام بدقائق حاجات المسجد الأقصى، والاهتمام تطبيق عملي للحب وخروج من نطاق الشعور لدائرة العمل والتنفيذ، حاجات «الأقصى» التي تبدأ بزيت السراج ولا تنتهي بالاهتمام بالعمارة والحشد والصلاة، وهو ما ترجمه الخلفاء منذ فتح المدينة على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى غروب شمس المسلمين عن المدينة المباركة.
مع ما للاهتمام من انعكاس على أصل الحب، فإن للمكانة الدينية أيضًا ارتباطًا قلبيًا ووجدانيًا، فعندما يُخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ارتباط القدس بالأنبياء السابقين ودعواتهم التي خصوها للمدينة، وجعل الدعوة للقادمين إلى المدينة للعبادة، فهي قلوب أحبت القدس وأهل القدس، ففي الحديث عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ سَأَلَ رَبَّهُ ثَلاثًا فَأَعْطَاهُ اثْنَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْطَاهُ الثَّالِثَةَ، سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ بَعْدَهُ فَأَعْطَاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لا يُرِيدُ إِلا الصَّلاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، نَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ الله قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» (المستدرك على الصحيحين)، هذه المنحة العظيمة التي سألها سيدنا سليمان عليه السلام، بأن يغفر الله تعالى لكل من يقصد المسجد الأقصى للصلاة فيه، تقوّي عرى التواصل والحب، فلا تكون زيارة المدينة كزيارة أي مدينة أخرى، بل هي جزءٌ من الأعمال الدينية للمسلم، بابٌ للغفران يحتاج إلى إخلاص مقصد وعبادة، وقد روي عن بعض الصحابة بأنهم كانوا لا يشربون الماء في القدس عند زيارتها للصلاة لكي لا يُشركوا نواياهم بأي فعل آخر، وتظل خالصةً للصلاة فقط ليحصلوا على الأجر العظيم.
ومن أعظم اللفتات حول حبنا لهذه المدينة جعلها مسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أتت في مرحلة مفصلية من الدعوة وصدودٍ عن الحق وثبات من معلم الدعاة وسيدهم، وإمامته عليه الصلاة والسلام للأنبياء في المسجد الأقصى، هو تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولأمته من خلفه وتأكيدٌ بأنه خاتم النبيين وسيدهم في العالمين.
وقد أورد الإمام ابن كثير في تفسير سورة «الإسراء» عبارة لطيفة في معرض حديثه عن إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء: «ثم أُظْهِرَ شرفُه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة»، وكون القدس هي المكان الذي احتضن هذه الصلاة الجامعة للرسالات والعصور إشارةٌ رائعة، فالجمع لم يكن في مكة المكرمة على عظيم فضلها ومكانتها، بل كان في القدس، فإلى جانب التسليم برسالة الإسلام، هو تعظيم لشأن المدينة، ففيها كان استلام زمام قيادة البشرية من الرسل السابقين لنبينا صلى الله عليه وسلم، وتولي الأمة المحمدية لقيادة الحضارة التي لم تلبث إشراقاتها أن انطلقت في الأرض بعد حين.
فالقدس محضن الأنبياء بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم حق خالص لا يمكن التفريط فيه أو القبول ببقائه تحت الاحتلال أياً كان.
تلك رسائل بسيطة من اهتمام رسولنا بالقدس و«الأقصى»، وقبسات قليلة من معينه العذب النضاح، وهي رسائل لنتذكر في ذكرى مولده كيف نحب المدينة ومن أين ينبع هذا الحب، ودروس في الاهتمام بالقدس وقضاياها وهي اليوم رازحة تحت الأسر، يؤلمها القيد ويفتّ في أحشائها حفريات الاحتلال وزبانيته.
القدس أرض الإسراء هي الحق الخالص للمسلمين لا يمكن إلا أن تكون إسلامية وعربية، ولن يهنأ ليهود مقامٌ فيها، وستعود الجحافل المؤمنة لتسرج المسجد بقناديل عزتها، ويعمر المسجد آلاف الركع السجّد، وتعود القيادة للأمة من القدس كما استلمها قائد هذه الأمة فيها أول مرة.