منذ أزمة 2015م توقفت عن الكتابة فيما يتعلق بخلافات جماعة “الإخوان المسلمون”، على اعتبار أنها خلافات داخلية تدور في مربعها الطبيعي وقابلة للحوار والحل، لكن حوار الدكتور حلمي الجزار لقناة الشرق، يوم ١٩ سبتمبر الجاري، قدم طرحاً يتنكر فيه بلغة غريبة، تشبه الصفة الغريبة التي حملها (رئيس المكتب السياسي) لجماعته.
تنازل عن ثوابت وحقوق، وأهان جماعته ومن حوله بعبارات التودد والانبطاح والاستسلام للآخرين دون مراعاة لكرامة من خرج ليتحدث باسمهم، وفي نفس الوقت بدا مغواراً شاهراً سيفه على جماعته التي احتضنته وقدمته للعمل العام وكان يحمل عضوية أعلى هيئة فيها (مجلس الشورى العام).. فانضم بذلك – في موقف يوضع في ميزان الأصالة والوفاء – إلى كل السيوف المشهرة من منصات السياسة والإعلام، التي لا تتوقف عن تزييف الواقع، وتجاوز كل حدود العقل والمنطق، مقدماً تنازلات مجانية من قبيل: مستعدون للحوار، والاتفاق مع النظام من أجل “مصلحة الوطن “.. أي وطن يا رجل؟! ودون المطالبة صراحة بالإفراج عن المعتقلين حتى ولو النساء والأطفال والمرضى وكبار السن.. بل ” تسوية الملف ” وهذا آخر ما عنده!
لغة انهزامية مشبعة بالاستجداء لم يرد فيها ذكر ألفاظ بعينها: انقلاب – عسكر – رابعة – مذابح …وهي لغة غريبة على أدبيات الإخوان، وكل صاحب حق من البشر، وهو موقف لم يصدر عن الإخوان حتى في أصعب المحن.
ألم تستمع إلى الشهيد العملاق سيد قطب وهو تحت حبل المشنقة، عندما طلب منه المنفذون كتابة كلمات استرحام للزعيم فكان رده الذي يعرفه الناس: “إن كنت سأعدم بحق فليتم التنفيذ وإن كنت سأعدم بباطل فلن استرحم الباطل”.
وهكذا تابعت هذا الحوار- المؤسف -الذي كبّ فيه كل ما عنده من تنازلات وانتظرت أياما قليلة راصداً ردود الفعل علّها تغنيني عن الكتابة لكنها حركت عندي معانٍ كثيرة دفعتني للكتابة اليوم، بل ومواصلة الكتابة.
وقبل أن أخوض في التعليق يجدر بي أن أؤكد أن كتاباتي وردودي، ومعي عشرات مثلي وأفضل مني، لن تقدم أي نوع من الحماية والتحصين لصرح جماعة “الإخوان المسلمون ” الشاهق، مثلما أن أي حوار مثل حوار د. حلمي الجزار لن يهز طوبة واحدة في ذلك الصرح المهيب، وإنما هو الإسهام بكلمة حق بياناً للحقائق – من وجهة نظري – خاصة أنني قريب من الأحداث ومتابع لها، ولم تتوقف حواراتي وتساؤلاتي ومتابعاتي استجلاءً للحقيقة ودفاعاً عن الحق.
أقول: قدم الدكتور حلمي كل ما لديه من تنازلات في الحوار دفعة واحدة، ولم يهده ذكاؤه، وهو يدعي أنه رئيس “مكتب سياسي، للإبقاء على بعضها حتى تكون على طاولة المساومات عند الاتفاق الأخير مع الانقلاب.. هذا إن أعار الانقلابيون كلامه اهتماماً!
في التفاصيل اعترف بتضييع فرص كبرى خلال السنوات العشر الماضية…!
والسؤال: كيف سكت طوال عشر سنوات ولم ينبت ببنت شفة عن تلك الفرص الضائعة، وبما أنك كنت عضواً في مجلس الشورى العام (أعلى هيئة في الجماعة).. لماذا سكت ولم تطالب بمناقشة تلك الفرص الضائعة في مجلس الشورى؟ ولماذا لم تطالب بمحاسبة المتسبب في إهدار تلك الفرص؟
وطالما أنك حشرت جماعة الإخوان ضمن من وصفتهم بالأنانية.. كيف تقبل على نفسك البقاء ضمن تنظيم أو جماعة أنانية تضيع الفرص تلو الأخرى على مصر التي تتغنى بحبها؟
“وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى — وليلى لا تقرُّ لهم وِصالاً”
لو قلت: إن فرصة التعبير لم تتح لك، أقول لك : كان يجب أن تضج بالشكوى إلى الرأي العام، فقد كنت خلال العام الذي حكم فيه الرئيس الشهيد محمد مرسي ضيفاً دائماً على الفضائيات بشتى أنواعها وكان بوسعك إعلان ملاحظاتك وانتقاداتك للجماعة التي تحمل اسمها، لكن أما وأن العالم أجمع- شرقه وغربه- تنكر لمبادئه في الديمقراطية وحرية الشعوب في اختيار من يحكمها، وجرد حملة شاملة لاجتثاث هذه الجماعة من جذورها، وبدأ ذلك بالتخلص من الرئيس محمد مرسي- رحمه الله – وقبل ذلك وبعده مجازر تلو مجازر ومحاكمات وإعدامات وقتل على الهوية وشيطنة.. وبالمناسبة.. أنت لم تشر إلى ذلك بكلمة في حوارك حتى ولو من باب الإنسانية! ولكنك التأمت مع الجمع وأصبحت تشارك في جلد جماعتك بصفة مستمرة، ولم أسمع منك في حواراتك ومداخلاتك سوى كلمات الدفاع عن النفس بطريقة منبطحة فاتحاً الطريق أمام مزيد من الحملات على الجماعة.. ولئن سألتهم العدل والإنصاف سيكون ردهم: حلمي الجزار يقول أكثر من هذا!
كيف تُخطّئ العمل السياسي للجماعة واصفا إياها – ضمن القوى السياسية – بالأنانية، ثم تعلن الانسحاب المبطن من الساحة السياسية، تكريساً لأكذوبة فصل السياسي عن الدعوي، ومؤكداً أربع مرات – بعد تقديمك على أنك مسؤول المكتب السياسي – أن جماعة الإخوان جماعة دعوية خيرية؟! لماذا قبلت إذاً بتقديمك بهذه الصفة؟ وما حكاية “المكتب السياسي ” هذه يا دكتور حلمي.. تسمية جديدة لأول مرة أسمع بها.. أهذا تقليد للموجود أم اختراع جديد من عندك؟ أخي: أكيد أنت تعلم أكثر مني أن للإخوان هيكلهم ومسمياتهم التي تفردوا بها طوال تاريخهم، لكن يبدو أنك اعتزمت أن تأتي على كل شيء.. هل هذا هو التأسيس الجديد؟!.. طيب أذكر لنا إنجازات هذا المكتب السياسي أو حتى رؤساءه الذين سبقوك.. أم أنه اختراع جديد ضمن أجندة اختراعاتك؟
خلط الأوراق
ويكرر الرجل مواقف مستقرة للجماعة عبر مرشديها، فلم نكن بحاجة إلى قوله إن المستقبل ليس ملكًا لطائفة وأن الجماعة تفتح ذراعيها للحوار مع الكافة، وإنما ظهرت الحاجة عندما عدد مرشدي جماعة الإخوان واضعًا اسم الدكتور صلاح عبد الحق بينهم .. !
ومع كامل احترامي للدكتور صلاح عبدالحق.. هل يمكن أن يشرح لنا الدكتور حلمي آلية اختيار القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان وفق لوائح الجماعة؟ وكيف تم اختيار الدكتور صلاح؟ وبالمرة: هل تعترف يا دكتور حلمي بأن مجلس الشورى العام في الداخل والخارج قائم ويمارس مهامه أم تم تقزيمه فيمن حولك في الخارج.. وليت الدكتور صلاح يفيدنا قيامًا بواجب الشهادة لله.
الصراع على السلطة
ثم تطرق إلى الاختراع المؤسسي الغريب الذي ردده الأستاذ إبراهيم – رحمه الله وأحسن إليه – وهو اعتبار المشاركة في الانتخابات العامة نوعًا من الصراع -المرفوض عنده -على السلطة.. ويمكن أن يؤدي إلى تفكك مجتمعي!
طيب يا دكتور حلمي هل يمكن أن تفيدنا بنص هذا الخيار القديم كقرار – مثلاً – من مكتب الإرشاد أو مجلس الشورى العام؟ وهل هذا القرار يعتبر المشاركة في الانتخابات بكل درجاتها صراعاً على السلطة أم أن الصراع المقصود هو الذي يولد فتنة داخلية وحرباً أهلية؟، فكلمة “الصراع ” في حد ذاتها تعني لوناً من ألوان الحدة والشدة والعنف.
وأما الذي مارسه الإخوان عبر تاريخهم منذ الإمام البنا حتى انتخابات 2012م هو مشاركة وطنية إيجابية ومساهمة بنّاءة في بناء الوطن وهي المساهمة التي يُجرم قانون الدولة الامتناع عنها ويلزم مرتكبها بدفع غرامة، هي مشاركة ومنافسة وسباق إيجابي نحو الفوز بثقة الشعب، وهي الممارسة التي مارستها وتمارسها كل القوى السياسية، وهي كذلك المنافسة التي تتم ممارستها في العالم الحر أجمع وتفوز فيها أحزاب مسيحية ويسارية وليبرالية وغيرها … لكنك ومن يوافقك قلبتموها صراعا ومعركة، وتدعون للنأي بالإخوان عنها! وطالما أن التدليس على الرأي العام يتم بهذه الجرأة فبماذا تسمي فوز تيار “الإخوان المسلمون” في جامعة الكويت والمتحالفين معه (القائمة الائتلافية) هذا الأسبوع للمرة الخامسة والأربعين على التوالي بتشكيل مجلس إدارة الاتحاد الطلابي؟، وقد بارك هذا الفوز المجتمع الكويتي واعتمدته الحكومة وأقرته؟! هذه بلاد حية وشعوب متصالحة مع نفسها ولذا تتطور حتى ولو كانت صغيرة.
ولو كانت هذه الممارسة -كما تقول- صراعاً، فهل أنت أكثر فقهاً ووطنية من هؤلاء المرشدين بدءاً من الأستاذ البنا ومروراً بالأستاذ التلمساني، حتى الأستاذ الدكتور محمد بديع؟.. وهل لو شارك الإخوان في أي انتخابات كصراع على السلطة.. هل كانت ستصمت القوى السياسية وفقهاء القانون العدول في البلاد، بل وفي كل البلاد التي يوجد فيها إخوان مسلمون؟! والذين تتسم مشاركاتهم بالتحضر والمنافسة الشريفة.
لكني ألفت انتباهك لأمر مهم، هو أن السبب في الضجة الدائرة – في رأيي – على مشاركات الإخوان الانتخابية، هو تحقيقهم في معظمها المراكز الأولى، بدءً من الاتحادات الطلابية حتى مقاعد البرلمان، وقد تسبب ذلك في إيجاد حالة من الحنق لدى كثير من التيارات، خاصة اليسار الذي كان نصيبه في معظمها هو السقوط المدوي، وتحول الحنق إلى حقد وحرب، ثم استجابة لإغراء السلطات على محاربتهم وإخراجهم من حلبة المنافسة السياسية، وقاد هذه الحرب التيار اليساري والعلماني الذي يركب معظم المنافذ الإعلامية وأدوات التوجيه، فصنعوا رأياً عاًما ضد الإخوان كانت تكذبه دوماً نتائج الانتخابات الحرة أو شبه الحرة، ولعل مطالبة قادة التيار اليساري ومنهم – على سبيل المثال – الراحل صلاح عيسى، يرحمه الله، بمنع الإخوان من المشاركة في الانتخابات حتى تكون هادئة وتحظى بقبول ومشاركة الجميع خير دليل على ما أقول.! والحقيقة أنها كانت دعوة لاقتسام كعكة هذه الانتخابات بين الفاشلين الذين تسود وجوههم أمام الجماهير مع إعلان النتائج وانكشاف ضعف القبول الجماهيري لهم.. وعموماً فالسلطة القائمة يومها لم تتمكن من الاستجابة لهم، ولكنها – فقط – ضيقت وحاكمت عسكرياً واعتقلت بهدف ” الفرملة “، ولعل هذا أيضا هو سر حكم الدكتور حلمي على تجربة الإخوان في الحكم بأنها: أدت لرفض كثيرين لوجودهم في السلطة!
إن الانتخابات التي تعتبرها صراعاً هي أفضل المقاييس العلمية لاكتشاف نسبة الرأي العام.. قبولاً أو رفضاً.. لكن للدكتور حلمي مقياساً عشوائياً اسمه “رفض الكثيرين” دون أن يفصح لنا عن كيف وصل لهذا الكثير؟!
هل وصلنا إلى هذا الحد من العشوائية التي يحاول البعض ترسيخها في التربة السياسية المصرية الملوثة أصلاً بالعشوائيات، ثم الضحك على العقول بهذا الشكل؟! طيب ولماذا سكت طوال هذه المدة يا دكتور حلمي؟ لماذا لم تعلن رأيك على الرأي العام الإخواني قبل الرأي العام المصري والعربي والإسلامي؟.. سكت عندما كان القادة وفرسان الساحة يملأونها فلما انقلبت عليهم الآلة العسكرية الوحشية وأودعتهم الزنازين خلا الجو لكل المتطلعين للزعامة لأنهم فهموها حزبية ووجاهة ونفوذاً وهي ليست كذلك.. خاب ظنهم وفشل سعيهم وأعيذك يا دكتور حلمي أن تكون منهم.
ثم: هل المنافسة الانتخابية التي يحض عليها القانون ويجرم التقاعس عن المشاركة فيها باتت سبة ونقيصة لدى قادة “التأسيس الجديد ” لدرجة تجعل الدكتور حلمي يكرر في حواره أكثر من مرة التأكيد على قرار من أسماهم الإخوان في عرفه بـ ” عدم المنافسة على السلطة “؟!.. كان ناقصاً يقول: عدم تكرار اقتراف الإخوان جريمة المشاركة في الانتخابات والمنافسة على السلطة.. ما هذا؟! وسط تقديم “أوكازيون ” منه للقوى السياسية (شركاء الوطن) والاستعداد لتقديم المزيد علّهم يرضون، وهو في ذلك لا يعبر عن سذاجة وإنما يرمي إلى اجتذاب أكبر عدد من القوى السياسية أو قليل منها ليمثلوا له ولتياره حاضنة شعبية وطنية، ستتم الطنطنة لها حتى يكتسب شرعية تمثيل الجماعة لدى الرأي العام – على الأقل – لكن ذلك لم ولن يحدث إلا من بعض القوى المُفلسة التي انفض عنها أقرب المقربين لها وتحاول النفخ في تحالفات ماتت وشبعت موتاً.
وأخيرًا.. وليس آخرًا: هل كل ما استطعت أن تقدمه لشهداء الشعب الذين سقطوا خلال الثورة وفي رابعة وأخواتها على امتداد القطر المصري هو: “طي صفحة الماضي”.. وعن المعتقلين: “أسمع أنينهم”؟!!
وعن الجماعة بدا الدكتور حلمي شاهراً سيفه تقطيعاً وتشريحاً، في حين بدا تجاه القوى السياسية الأخرى، أكثر انفتاحاً وانبطاحاً. أما عن الانقلاب فلا كلمة فهو فيما يبدو عنده سيد الموقف!
خبير العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي يبشرنا بتعريف جديد: “الديمقراطية سبب التفكيك المجتمعي”، بينما كل الشعوب الحرة والعالم الديمقراطي يرون أن السبب هو الدكتاتورية.. نحن أمام عجن وخلط للأوراق ينذر بصفقة يتم طبخها وتفوح رائحتها ويتم التمهيد لها بهكذا حوار!
(يتبع إن شاء الله)
——————
*مدير تحرير المجتمع الكويتية والشعب المصرية – سابقاً.