خير ما يهتدي به المسلم – في حياته – معينُ النبوة الصافي المتصل بالوحي الإلهي والتوجيه الربّاني، وقد قصّ الله تعالى على نبيّه محمد (صلى الله عليه وسلم) قصص إخوانه الأنبياء، وما مرّوا به من مصائب ومحن في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه، ومن أعظمها ما وقع لإبراهيم عليه السلام؛ فاختباره بذبح ابنه، وامتحانه بإلقائه في النار وغيرها من البلاءات، التي تَقشعرّ منها الأبدان، وترتعد منها القلوب، لشدة وقعها، وعظيم أمرها، ومع ذلك صبر، فوصفه الله تعالى بأنّه أمة، وما ذلك إلا بيقينه وصبره.
ويحسن أن أذكر معنى اليقين وأقسامه – بشكل مختصر – قبل أن أذكر بعض المحن التي مرّ بها إبراهيم عليه السلام، ونجح فيها، ففاز وظفر وصار أمة عليه الصلاة والسلام. فحريّ بأمّة تعصف بها المحن من كل جانب، أن يتأسّوا بهذه المدرسة النبوية العظيمة.
تحدّث عبد الله الهروي عن اليقين في منازل السائرين، حيث قال عنه: وهو على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى: علم اليقين، وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق.
- الدرجة الثانية: عين اليقين، وهو الغنى بالاستدراك على الاستدلال وعن الخبر بالعيان، وخرق الشهود حجاب العلم.
- الدرجة الثالثة: حق اليقين، وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين. (ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص85)
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75].
قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وسيدنا إبراهيم – عليه السّلام – كان حقاً من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لأن الله أعلمه ما وراء مظاهر الملك، وما وراء مظاهر الأشياء وعواقبها، فمثلاً عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له جبريل ليقول: ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم: أمّا إليك فلا.
ويقول ذلك، وهو يعرف أن النار تحرق، ولكن هذا ظاهر المُلك، وظواهر الأشياء، سيدنا إبراهيم يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة، ويستطيع ألا يجعلها محرقة، وهو متيقّن به، ولذلك لم يطفئ الله النار بظاهر الأسباب ولكن جعلها الله ليّاً لأعناق خصومه فأوضح الحق: يا نار أنا خلقت فيك قوة للإحراق وأنا أقول لك الآن: لا تحرقي {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ]الأنبياء:69[.
إذن يعرف إبراهيم – عليه السّلام- هذه الحقائق الخفية وراء الملك الظاهر، وهذا من الابتلاءات الأولى في حياته، ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل أن يلقوا يه في النار: ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أمّا إليك فلا، ثم يأتي له الابتلاء في آخر حياته؛ يذبح ولده، ونعلم أنَّ الإنسان تمرُّ عليه أطوار تكوين ذاته، وأحياناً تكون الذات هي المسيطرة، وفي طور آخر تبقى ذاتية أولاده فوق ذاته، أي أنه يحب أولاده أكثر من نفسه، يتمنى أن يحقق لأولاده كل ما فاته شخصياً، فلما كبر إبراهيم ووهبه الله الولد يأتيه الابتلاء بأن يذبح ابنه، إنه ابتلاء شديد قاسٍ، وهو ابتلاء لا يأتي بواسطة وحي، بل بواسطة رؤيا، ولكن نعلم أن رؤيا الأنبياء حق، لكن إبراهيم يعلم أنَّ الحقَّ سبحانه وتعالى لا يطلب من خلقه إلا أن يستسلموا لقضائه.
لذلك إذا رأيت إنساناً طال عليه قضاء ربه في أي شيء؛ في مرض، في مصيبة، في مال، أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرضَ بما وقع له ولو أنه رضي لانتهى القضاء، فالقضاء لا يُرفع حتى يُرضى به ولا يستطيع أحدٌ أن يلوي يدّ خالقه، فالناس هم الذين يُطيلون على أنفسهم أمد القضاء، ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية: قضية فهمه لعالم الملكوت، فلما قيل له: “اذبح ابنك” لم يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لأنه إن أخذه من يده وفي اليد الأخرى السكين فلا بد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط، فيحرم من الجزاء، فيبين له المسألة، ويقول القرآن حكاية عن إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
وهذا القول يريد به إبراهيم – عليه السّلام – أن ينال ابنه ثواب الاستسلام وهو دليل محبة إبراهيم لولده، وقال إسماعيل: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ]الصافات:102[، قال إسماعيل – عليه السّلام – ذلك؛ ليأخذ عبودية الطاعة، ويؤكد إبراهيم وابنه بالقضاء، فيقول: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ]الصافات:103[.
وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه لذلك يقول القرآن بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)} ]الصافات:104-105 [، ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يرزق الله إبراهيم بولد آخر؛ لأنه فهم ملكوت السماوات والأرض، وعرف نهاية الأشياء فإذا ما أصيب الإنسان بمصيبة، فما عليه إلا أن يرضى ويقول: ما دامت هذه المصيبة لا دخل لحركتي فيها، وأجراها عليّ خالقي، فهي اختيار منه –سبحانه وتعالى- ولا يوجد خالق يفسد ما خلق ولا صانع يفسد ما صنع، ولا بدّ أن لذلك حكمة عنده لا أفهمها أنا، لكنّي واثق في حكمته. (تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، 6/3748)
إنَّ الابتلاء لإبراهيم – عليه السّلام – في ذبح هذا الابن، خاصة كان عظيماً، ولكن إيمان إبراهيم – عليه السّلام – ويقينه بربّه كان أعظم من ذلك، فقد سكن قلبه إلى أمر ربه وسلّم به في طاعة وامتثال، فلم يتردد ولم ينزعج ولم يضطرب، بل كان مستسلماً لأمر الله راضياً به، وكذلك كان إسماعيل – عليه السّلام – حين أعلمه أبوه بأمر الله، فأسلما وخضعا لأمر الله، فكان اليقين في أمر الله متحققاً لكليهما، وصرف الله البلاء عن إبراهيم، وأنزل كبشاً فذبحه إبراهيم – عليه السّلام – بمبادرته لامتثال أمر الله دون تردد أو تأخير. (منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، ص48)
______________________________
- ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.
- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة، 2013م.
- منهج الدعوة إلى العقيدة في ضوء القصص القرآني، منى عبد الله بن داود، دار ابن حزم، بيروت، 1998م.
- إبراهيم عليه السلام خليل الله، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2021م.