لا شك أن الرسالة الأولى للداعية المسلم هي توصيل الرسالة كما أنزلها الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكل مكلف، سواء كان من المسلمين أو من غيرهم، بل إن الهدف الأساسي للجهاد في سبيل الله عز وجل إزالة العقبات الصلبة عن طريق الدعوة حتى يمكن إبلاغها وتوصيلها.
وما أكثر العقبات القديمة التي كانت تقف في وجه الدعوة، بدءاً من المنع والمصادرة، مروراً بقلة عدد الدعاة، انتهاء بصعوبة الحركة والانتقال.
ويمكننا القول بكل ثقة: إن هذه النوعية من العقبات أصبحت من مخلفات الماضي، أو على أقصى تقدير صارت باهتة لا تمثل التحديات الحقيقية في وجه الداعية المعاصر، فثمة تغيرات كثيرة حدثت في العقود الأخيرة الماضية؛ كالثورة في الاتصالات وحرية تداول المعلومات والمعارف، وكان من المنتظر أن يحقق ذلك نجاحاً منقطع النظير للنشاط الدعوي، وهو الأمر الذي لم يحدث بالشكل المطلوب، وكانت النتائج المتواضعة الملموسة للمتابع تثير عاصفة من التساؤلات عن الخلل الذي أدى بالدعاة لعدم استثمار الإعلام الجديد وتقنياته في توصيل الرسالة.
الإعلام الإلكتروني
المقصود بالإعلام الجديد الذي أحدث هذا الحراك في مهارات الاتصال هو «الإعلام الإلكتروني»، ويأتي في القلب منه وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للقنوات الفضائية وما أحدثته في وقتها من زخم، فإنها تبقى باهظة الثمن، ليست في متناول معظم الدعاة، ويسهل السيطرة عليها أو حتى إغلاقها، بينما الشبكة العنكبوتية زهيدة التكلفة سهلة الاستخدام ومتنوعة يصعب حجبها، والأهم من ذلك كله توافر تواصل فائق بين الداعية والمدعو.
الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن هناك نتائج رائعة تم تحقيقها، فبإمكان امرأة تجلس في عقر دارها أن تحفظ القرآن الكريم بعد أن تستمع لأجمل التلاوات الخاشعة وتجد من يسمع لها أيضاً، وتجد أشهر وأندر كتب التفسير أو تجد المحاضرات الميسرة التي تشرح لها بأسلوب عصري بسيط، ليس ذلك فحسب؛ بل تجد الصحبة الصالحة التي تعينها، كل ذلك ولم تتحرك من بيتها ولم تنفق أكثر من ثمن باقة الإنترنت وهاتف ذكي بسعر زهيد.
مهارات النشر
يبدو من الأهمية بمكان التأكيد على أن ساحة النشر الإلكتروني ساحة مفتوحة للجميع، وبالتأكيد ليست حصرية للدعاة، فهي للدعاة وأيضاً لخصومهم وللمشككين والمتطرفين الإرهابيين ولشتى الملل والنحل القديمة والمعاصرة، وأيضاً لأصحاب لهو الحديث ونشر الرذائل الذين أبدعوا في التصوير والمونتاج والقوالب حد الإبهار، ولعل هذه هي النقطة المركزية التي تجيب عن كثير من التساؤلات التي يأتي على رأسها: لماذا ينجذب الجمهور لصفحات وقنوات تبث التفاهة والسفاهة ولا يهتم بأخرى رصينة جادة هادفة؟ إنه تحدي الشكل والمضمون، فأي تعاسة ربطت بين المضمون ذي الجودة العالية والشكل السقيم الجامد!
إذا أراد الدعاة أن تكون «السوشيال ميديا» طريقهم للقلوب والعقول فعليهم أن يحترفوا أدوات وتقنيات وفنيات الإعلام الجديد، بدءاً من الفئة المستهدفة، فلكل فئة مستهدفة المنصة الخاصة التي تناسبها، فالشباب يفضلون «إنستجرام»، والمثقفون يفضلون «تويتر»، و«فيسبوك» قد يناسب الجميع، ولكن الفئات الأكبر في السن تفضله أكثر، وهكذا لكل منصة جمهورها.
أيضاً لكل فئة مستهدفة نمط من الخطاب يختلف عن باقي الفئات، فالداعية الذي يتوجه للشباب لا بد أن يعرف أشهر المصطلحات الدارجة بينهم، والقضايا التي يهتمون بها، والتحديات التي تشغلهم، والأهم من ذلك الطريقة التي تصل لقلوبهم، بل إن شريحة الشباب تنقسم لأقسام متعددة تختلف بحسب الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، ولكل فئة خطاب مختلف، وإن كان مضمون الدعوة الدينية واحدة وثوابتها واحدة، لكن الخطاب مختلف ومتعدد.
والداعية الذي يتجه بخطابه لغير المسلمين لا بد أن يدرك المخاوف التي تدور في عقول من يتوجه لهم بالخطاب.. الشبهات التي تعرضوا لها.. نمط الحياة المعقدة التي يعيشونها.. ما الذي يحتاجونه؟ وماذا بإمكانه أن يقدم لهم؟
الدعاة «الإنفلونسرز»!
كان من نتائج تفاعل الدعاة مع منصات الإعلام الجديد بزوغ نوعية جديدة من الدعاة ممكن أن نطلق عليهم الدعاة المؤثرين أو «الدعاة الإنفلونسرز»، وهؤلاء هم الدعاة الذين استطاعوا فهم الآلية التي تعمل بها منصات الإعلام الجديد، ولديهم طريقتهم الخاصة والمشوقة في جذب الفئة المستهدفة، وهناك ثقة عالية بينهم وبين جمهورهم الخاص، وهؤلاء الدعاة يختلفون تماماً عن دعاة الفضائيات، وبالطبع يختلفون عن الدعاة الرسميين ممن يتولون الخطابة.
المشكلة التي تواجه «الدعاة الإنفلونسرز» أن البعض منهم علمه الشرعي محدود، وهذا ما يجعلهم في مهب عواصف النقد، خاصة عندما يتجاوزون إطار الرقائق والأخلاق وقيم التنمية الذاتية، وهم منتقدون حتى في هذه المساقات، فهم متهمون بـ«لبرلة» الإسلام (الإسلام الليبرالي) وتسليع الدين، وتقديم لون من الإسلام يطلقون عليه «إسلام السوق»، حتى إن بعضهم وصفهم أنهم يمثلون مرحلة «ما بعد الإسلاموية»، وأن هؤلاء الدعاة يمثلون تجسيداً لضياع الحلم الإسلامي الكبير في التغيير الشامل، ويكتفون بتقديم حالة من التدين المريح بلا أعباء حتى يستريح الضمير الفردي.
والحقيقة أن هذا النقد بالغ التعسف، ولا يلمس أرض الواقع، فالفرد هو أساس المجتمع، والقيم التي يسعى هؤلاء الدعاة لترسيخها هي القيم الأساسية التي تنبني عليها شخصية الفرد، خاصة وأن الملايين من متابعيهم من الشباب صغير السن الذين يواجهون خطر التذويب في ثقافات أخرى يراد لها أن تمثل الهوية الجديدة لمجتمعاتنا، وفي مقاربة أخرى، فهؤلاء الدعاة المؤثرون يقدمون دعوة جزئية ولكنها بالغة الأهمية خاصة في عصر يتسم بالتخصص، فلا معنى للدعوات الكبيرة دون خطوات صغيرة تفصيلية تلامس الأمور الدقيقة.
دعوة متجددة
على أي حال، هذه الجهود التي يقدمها «الدعاة المؤثرون» هي أفضل من لا شيء، خاصة مع بعض الفئات والطبقات التي يصعب على الدعاة التقليدين إزالة الحواجز القائمة بينهم.
ويبقى امتلاك هؤلاء المؤثرين لمهارات لغة الجسد المناسبة وتعبيرات الوجه المتفاعلة ونبرات الصوت القادرة على التواصل وفهم سيكولوجية الفئة المستهدفة ومهارة التعامل مع منصات «السوشيال ميديا» وقدرتهم على التفاعل الحي مع الجمهور الخاص بهم.
وعلى الداعية المعاصر أن يجيد «غربلة» قضاياه لانتقاء ما يحتاجه الناس في اللحظة الراهنة، وليس عليه أن يكون حائط دفاع لما يثيره الآخرون، بل عليه أن يكون المبادر بتوجيه الرأي العام، فالمنصات الجديدة لا بد أن يواكبها فكر جديد وقضايا جديدة وحلول جديدة تصب في النهاية لخدمة مشروعه الأساسي، وهو توصيل رسالة رب العالمين.