د. عمرو نافع
يوحي مصطلح تربية الأبناء بأنك ستمسك بأدوات معينة وتتجه بها إلى أبنائك لتربيهم، لتصلحهم، ولكن الحقيقة أن التربية الإيجابية تتجه للأبوين قبل الأبناء، وتعلمهم كيف يصبحون قدوة صالحة بلسان الحال وليس بلسان المقال.
وجذور التربية الإيجابية في ديننا الحنيف، وإن كنا لم نجتهد في استنباطها كعلم مستقل، فسبقنا لذلك الغرب، وقدموا إسهامات مهمة، لكنها لم تكن بالضرورة أن كلها رشيدة، لكن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو بها أحق!
يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله عز وجل: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6)؛ أي: علموا أنفسكم وأهليكم الخير (رواه الحاكم)، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم ينصحنا في أحاديث كثيرة بقوله: «اعدلوا بين أولادكم» (صحيح الطبراني)، بل أكد النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه أحفظه أم ضيع؟ فيسأل الرجل عن أهل بيته» (رواه الطبراني).
حزم ورفق
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله» (متفق عليه).
في كتابه «أبناؤنا جواهر لكننا حدادون»، يؤكد د. مسلم تسابحجي، المدرب التربوي، أن التربية الفعالة تقوم على خطوات ثلاث، هي: بناء الثقة، اصطياد الإيجابيات، إعادة توجيه السلبيات، فدورنا إذن هو أن نكسب أبناءنا لا أن نكسرهم، أن نعلمهم الطيران ولا نحبسهم في شرنقتنا الحريرية.
والتربية الإيجابية حقيقة عملية توازن؛ ولو تربى الطفل على التدليل الزائد، وعدم الاكتراث بسلوكياته الخاطئة، فسوف تنمو عنده أزمات اللامبالاة والأنانية، والعكس حين نقسو ونفرط في الحزم، فإن ذلك يجعل الخوف أساس أي سلوك يقوم به.
وبحسب جين نيلسون، في كتابها «التربية الإيجابية للمراهقين»، كلما يشب الطفل تصبح لديه آلام لا تستطيع رؤيتها، وهي تتعلق بتغيرات نفسية وعقلية وجسدية مستمرة، تبدو متعاركة داخله، وتجعل سلوكه يبدو غريباً ويحتاج لتفهم، وبعض المراهقين والأطفال في عمر ما بعد 9 سنوات يلجأ للعزلة والتشرنق بلا سبب، أو يفقد صبره أو يعتمد أسلوب المواجهة والهروب، وكلها أشكال نفسية تستدعي الاحتواء لا الغضب.
روشتة التربية الإيجابية
روى البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لكل شجرة ثمرة، وثمرة القلب الولد، إن الله لا يرحم من لا يرحم ولده».
وتلخص د. جين نيلسون خطوات التربية فيما يلي: التواصل مع ابنك قبل بداية تصويب سلوكه، تأكيد الاحترام المتبادل بينكما (أنت لست الطرف الضعيف في معادلة الأسرة يا ولدي)، أهداف ممكنة وليست وتصب في صالح العقاب أو التعجيز، أهداف تخص ابنك وتشبهه ولا تتعارض مع شخصيته.
لم يعد الأب هو ذلك الحكم في فض النزاعات طوال الوقت، بقدر ما هو صديق أكبر وأرشد، لا يخفي وراء حزمه تعاطفه أيضاً في الوقت الملائم إذا ما رأى ابنه بائساً أو مضطرباً، يمكنك هنا أن تتكئ على الأريكة معه وتستعيد تلك اللحظة التي وجهت لك المعلمة إهانة: «كم كان الأمر قاسيًا حقاً!»، وهنا بدأت التعاطف، ثم تخبره ماذا فعلت لتخرج من هذا الموقف لاحقاً.
لا تطلق «العفاريت الأربعة»!
الحزم لا يعني الإيذاء البدني والإهانة والإذلال للصغير، ولا أن تضعه في مقارنات دائماً مع من تراهم أفضل منه، كما أن الإهانة والمقارنة توقظ ما يسمى بـ«العفاريت الأربعة»، فما هي يا ترى؟ هي ببساطة إيقاظ فكرة الانتقام داخله؛ «سأكسر ما يحبه والداي»، أو تحويله لشخص منافق يرضيك وفقط؛ «سأفعل ما يريده الآخرون»، أو يسعى للثورة والتمرد؛ «سأرفض وفقط»، أو ينسحب تماماً ويفضل العزلة!
إن الأسلوب الأمثل هو النقاش، والسماع، وإيجاد حلول وسط في كثير من الأحيان التي لا يكون فيها الصواب واحداً، مثلاً اسأل ابنك: ماذا ستفعل لو كنت مكاني؟ كما تتبنى لورا ماركام في «أبوة مسالمة وأشقاء سعداء»، ترك الأبناء يتدافعون للحظات، وعدم التحكم فيهم، ثم التدخل بهدوء، وبدون فقدان الأعصاب، ومنحهم فرصة لإصلاح ما أفسدوه، أو طلب 5 دقائق للجميع وقد تطول للهدوء، والتفكير في وقت جيد معهم، والعودة لاتفاقاتنا المسبقة مثل مدة المكوث أمام شاشة الهاتف، وماذا سنفعل لو أطلنا الوقت أمامه؟!
الاستيداع
سمع أحد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر: «قَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ: إِنَّ اللهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُ اللهَ دَيْنَكَ، وَأَمَانَتَكَ، وَخَوَاتِمَ عَمَلِكَ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامُ».
إن كثيراً من المربين يتخيلون أن واجبهم ضبط أبنائهم بشكل مثالي كما يريدون، وهذا غير واقعي، ويسبب توتراً دائماً عند الأبوين، فالحقيقة أن الله وحده هو من يوفقنا لتربية أبنائنا ويوفقهم للطريق السليم.
أيضاً يؤدي الضغط الاجتماعي دوراً في جعل بعض الآباء «يفرم» ابنه حرفياً خوفاً من ألسنة العائلة التي أصبحت تنتقد الصغير لأنه مثلاً تلفظ بشيء لا يليق، وهنا يجب أن أفكر هل حنقي فعلاً لصالح صغيري، أم بضغط من الآخرين أحوله نحوه؟!
عليك أن تربي بكلمات أقل وفعل أكثر! ولو أنت مثلاً تفقد أعصابك ويعلو صراخك لكل موقف، فلماذا تطالب ابنك الذي لم يكتمل رشده أن يكف عن الصراخ عند أول مشكلة؟!
اصطد الإيجابيات.. ووجه السلبيات
كثير منا يتجاهل التصرفات الحسنة لأبنائنا ظناً منا بأنها بدهية ومفروغ منها، فنمررها دونما مكافأة أو كلمة تشجيع، وهكذا يجد الابن تجاهلاً تاماً في حالة السلوك الحسن، ويتوقف في لحظة عن أدائه، في حين نركز دائماً على السلوكيات الخاطئة.. والأصل أننا ننظر للسلوك الضار مبدئياً بشكل منفصل عن الابن نفسه، ثم نعالجه ونصل مع الابن لكيفية توجيهه لسلوك جيد.
علينا دائماً التفكير في الدوافع وراء سلوك الابن، هل مر الابن بمشكلة مع رفاقه في المدرسة، هل ترك حل واجباته لأن الدرس صعب ويخاف أن يخبرنا فنسخر منه؟ هل يحب أن نتيح له أوقاتاً أكبر لتفريغ طاقته بدلاً من ساعات الدراسة الطويلة؟
لغات الحب الخمس
إن اللعب والمرح أيضاً من أفضل الأساليب لبناء الثقة عند الأبناء، وتقوية الألفة وفتح قنوات اتصال فائقة الجودة معهم، كما تخبر لورا موراكام، في حين تضيف نيلسون، في كتابها، أهمية منح الأبناء أوقاتاً خاصة، لاجتماع الأسرة، وفتح كل المقترحات فيما مررنا به أو سنمر به لنتعلم منه.
تأكد أن رسالة الحب يجب أن تتابع كل خطوات التربية؛ «أنا أحبك لأنك ابني مهما كنت أو فعلت»، وبحسب الكتاب العالمي «لغات الحب الخمس»، فإن كل طفل له مداخل هي الأقرب لإشعاره بهذا الحب: التلامس الجسدي، كلمات التوكيد، الوقت النوعي، الهدايا، وأعمال الخدمة.
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف ندعو لأبنائنا، فكان مما يؤْثر عنه أن يُجلس الحسن على فخذه، وأسامة بن زيد على الأخرى، ويضمهما داعياً الله تعالى: «اللهم ارحمهما» (رواه البخاري)، وكان أنس بن مالك يقول: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله.