قرأت ما كتب الأستاذ سيد قطب في العددين السالفين من «الرسالة»، وكنت حَرِيًّا أَلَّا أعبأ بما يكتبُ عن الرافعي في أوانٍ حولِ وفاته، وقد تهيأ أهله وأحباؤه وأصحابه تتلفَّتُ قلوبهم لذكراه الأولى بعد أن سَلَّه الموت من بينهم اغترارًا.
والأستاذ سيد قطب قد أبى له حسن أدبه، وجميل رأيه، ومروءة نفسه، ونُبْل قلبه، وشرف مقصده، وإشراق نقده إلَّا أن ينبش ماضي الرافعي وما سلف من أمره، ليستخرج حلية يتحَلَّى بها إذ يكتب عن خصومةٍ بين رجلين: أما أحدهما -أنسأ الله في أجله وأمتع به- فما برح يتلطف للناس بما يستجيد من عمل يجدد به مَطَارِفَ آخرته؛ وأما الآخر -رحمةُ الله عليه- بين يدي ربه يتقرب إليه بعمل قد أبلى به أثوابَ دُنْياه. فلولا أن الميت لا يدفع عن نفسه في ساعة موته مثل الَّذي كان يدفع في أيام حياته، وأن ذكر الحي أقرب إلى الناس من ذكر الميت -لكان جديرًا بنا أن ندع الأستاذ المهذب الفاضل يتكلم بالذي يهوى على ما خيَّلَتْ له. فليس للأدب اليوم من الحرمة، ولا فيه من النبل، ولا عليه من الحياطة والحرص ما يحفز أحدًا للمراصدةِ دونَه أن يُمتَهن أو يُسْتَرْذَل.
هذا، وقد جعل الأستاذ الفاضل يستثير دفائن الإِحَن، والأحقاد التي كانت بين الرافعي والعقاد، ليتخذ منها دليلَهُ الَّذي يفزعُ إليه في أحكامه! على الرافعيِّ، لا بل على قلب الرافعيِّ ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه! ثم لم يرض بذلك حتَّى نفخ فيها من روح الحياة، ما جعلها ممَّا يكتب الأحياء عن الأحياء للإِيلام والإثارة، لا للجرح والتعديل والنقد؛ وكأن الفتنة عادت جَذَعَةً بين الرافعي نفسه وبين العقاد، ولقد بدا لبعض الناس رأيٌ فيما كتب الأستاذ المهذب، ولكنا نفيناه إذ سُئلنا عنه، فنحن نعلم أن العقاد لا يرضى اليوم أن يكتب مثل هذا الَّذي كُتب عن الرافعي. ولقد ساء ظن امرئ بالعقاد ألا تكون للموت في نفسه حرمة، حتَّى يكون هو يعين عليه أو يرتضيه أو يسكت عنه إلا سكوت الغَضَبِ والاستهانة.
فنحن إذ نكتب في ردِّ كلام هذا الأستاذ الفاضل سيد قطب لا نبغي أن نسدِّدَ له الرأي فيما يحب أن يرى، فما علينا ضَلَّ أو اهتدى، ولا أن نقيم مذهب الرافعيِّ على أصله وقد ذهب سَببُه وبقى أدبه؛ ولا أن نسوء العقاد حفيظة نتوارثها له عن الرافعي أو من ذات أنفسنا، فما من شيمتنا مثلُ ذلك؛ كلَّا، بل نكتب لنميط الأذى عن حُرَم الموت، وكفى بالموت حقًّا وجلالًا.
ورحم الله الشعبيَّ فقد كان يقول: «تعايش الناس زمانًا بالدين والتقوى، ثم رُفِعَ ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس اليوم إلا بالرغبة والرهبة، وأظنه سيجيء ما هو أشد من هذا»، ولقد جاء وفات ما نحن فيه ظنونَ الشعبي. فما يتعايش الناس اليوم إلا بثلْبِ الموتى!
والا فما الَّذي رمَى في صدر الأستاذ سيد قطب بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد؟ ألم يكتب الرافعي للعقاد يوم كان يملك يكتب ويقول؟ أو لم يكتب العقاد للرافعي ما كتب؟ ثم نامت الثائرة ما بينهما زمنًا كان حده الموت. يقول الأستاذ: إنه -هو لا العقاد- “كان مستعدًّا للثورة والحنق، لو تناول بعض هؤلاء -يعني الرافعي ثم مخلوفًا- أدَبه! بمثل هذا الضيق في الفهم، والاستغلاق في الشعور؛ أفكان كلام سعيد العريان -وهو يؤرخ أحقادًا قد سلَّها الموت إذ سَلَّ أسبابها- هو الَّذي أثار هذا الحيّ المستعد للثورة على ذلك الميت العاجز عن دفع الثورة؟ ثم ما الَّذي يحمله على أن يُلبسَ هذه الثورة جلد النقد؟ والعجب أن يثير ما كتب سعيد حيًّا ليس شيئًا في الخصومة بين الرافعي والعقاد، وهو ليس يثير العقاد أحدَ طرفي الخصومة، وهو الَّذي يملك أن يقول لسعيد أخطأ أو أصاب! أشهد أن ما بالأستاذ قطب النقد، ولا به الأدب، ولا به تقدير أدب العقاد أو شعره. فما هو إلا الإنسانُ وجهٌ يكشفه النور ويشف عما به، وباطن قد انطوى على ظلمائه فما ينفذ إلى غيبه إلا عِلْمُ الله.
وأنا أقدِّمُ بين يدي كلامي حقيقة لابدَّ من تقريرها عن الرافعي والعقاد، وذلك أن الرافعي -رحمه الله- لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة، وأن أدبه كله ساقط ذاهب في السقوط، وأنَّ مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما -لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره، ولو كان العقاد يرى الرافعي بعض رأيه الَّذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له، وكم من رجل كتب عن الرافعي وعن العقاد ونال منهما وأوجع! ولأنه ليس يدخل في حسابهما، ولا يقيمان لأمثاله وزنًا، ولا يعبآن بقوله ونقده وثورته- فقد تركاه يقول فيكثر فيملُّ فيسكُت، ولم يكن بين أحد منهما وبين مثله كالذي كان بين الرافعي والعقاد.
فالرافعي، والعقاد، أديبان قد أحكما أصول صناعتيهما، كلٌّ في ناحيته وغرضه، وأفنيا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه، ولا يُظن بأحدهما أنَّه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوَّة تعارضُ قوة، ورأيٌّ يصارع رأيًا، وكان في كليهما طبيعة من العنف والعُرام والحدَّة، وَولِعَ العقادُ بإرسال العبارة حين يغضب على هينتها صريحة لا صنعة فيها، وأُغرى الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصبه لسخره وتهكمه على طريقة من الفن؛ فمن ثمَّ ظهرت العداوة بينهما في النقد. وفي أذيالها أذى كثير وغبارٌ ملؤه القواذع والقوارص من اللفظ، وعلى جنباته صورٌ ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة، لا يراد بها إلا ذلك. ولقد شهدتُ أن الَّذي كان يكتبه الرافعي عن العقاد لم يكن عندي مما يحملني على الحط من منزلة العقاد التي كان ينزلها في نفسي، بل أستيقن أن الَّذي يكتبه إنما يراد به النيل من غيظ العقاد لا من العقاد نفسه. وعلى مثل ذلك كُنْتُ أجد ما يكتبه العقاد عن الرافعي، فلم يكن نيل العقاد من الرافعي -وأنا أحبه- مما يحملني العداوة له أو يدفع بي إلى الغيظ والحنق والثورة.