لفلسطين في نفوس المسلمين منزلة كبيرة؛ لما حباها الله من كونها مسرى رسول الله ﷺ، وبها بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، وتهبُّ علينا منها نسماتُ النبيين والصديقين، وفي كل ذلك ما ينعش النفوس ويغذِّي الأرواح.
ولقد وعى المسلمون ما يحاك لفلسطين من مؤامرات لسلخها عن طابعها الإسلامي، وتقديمها وطنًا قوميًّا للصهيونية العالمية يكون سرطانًا دائمًا في جسد الأمة، يعمل على تفتيته وإذلاله، ويحقق حلم الدولة اليهودية الممتدة من الفرات إلى النيل. ويعتقد المسلمون اعتقادًا جازمًا بأن فلسطين جزء من العقيدة الإسلامية، وأن أرضها وقف إسلامي على جميع أجيال المسلمين، لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يفرّط أو يتنازل ولو عن جزء صغير جدًّا منها؛ ولذلك فهي ليست ملكًا للفلسطينيين أو للعرب وحدهم.
احتلال إرهابي
ويعتقد المسلمون أن احتلال الصهاينة لفلسطين ليس من نوع الاحتلال الغربي لمعظم بلاد العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولكنه احتلال استيطاني عنصري إرهابي توسعي تحدوه عقيدة وتحمله مزاعم تاريخية.. ومن ثم فهو يسعى للاستيلاء الدائم على الأرض وتفريغها من أهلها بالإرهاب والقتل والتهجير والطرد، وتدمير القرى والمزارع، وإحلال يهود العالم محل الفلسطينيين. ورغم إعلانهم قيام دولتهم عام 1948 فإنهم لم يحددوا لها حدودًا حتى الآن؛ وذلك لأنهم يسعون لتحقيق حلمهم بإقامة دولتهم الكبرى، يسعون قبلها لتدمير المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم المزعوم مكانه، يقول بن جوريون: «لا معنى لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل».
إنه منذ دنَّست أقدامهم أرض فلسطين لم تعرف المنطقة أمنًا ولا استقرارًا ولا تنمية ولا سلامًا، وإنما هي الحروب بويلاتها في أعوام: 48، 56، 67، 82، 2006، 2009، وكان من نتائجها: التدمير والخراب والقتل وإراقة الدماء والتخلّف والاحتلال. إن اليهود في فلسطين كما قال الإمام حسن البنّا رحمه الله: (خطر داهم على سياسة الشرق عامة؛ لأن فلسطين قلب الشرق وموطن مقدسات إسلامية ومسيحية، ودسائس اليهود السياسية غير منكورة، ومطامعهم في الوطن القومي غير محصورة).
وحوش متعطشة للدماء
وإن المجازر التي اقترفوها ضد أهلنا في فلسطين مثل دير ياسين وقبية وكفر قاسم وخان يونس وغيرها كثير، والتي قتلوا فيها الشيوخ والأطفال وبقروا بطون الحوامل وهدموا المنازل على ساكنيها، والتي تكررت في قانا وبيروت وصابرا وشاتيلا في لبنان وبحر البقر في مصر، وقتل الأسرى المصريين في حربي 56، 67، ودفن بعضهم أحياء، والحصار الخانق لقطاع غزة بغية تركيع الفلسطينيين ودفن القضية، إضافة إلى التهديد بالإفناء المتمثل في ترسانة الأسلحة النووية الضخمة المعلقة فوق رءوسنا.. كل هذا يقطع بأن هؤلاء القوم ليسوا بشرًا طبيعيين ولكنهم وحوش متعطشة للدماء يتطلعون إلى الاستيلاء على ما في أيدينا والأرض التي تحت أقدامنا.
وجوب التصدي للصهاينة
لكل هذا وجب التصدي -وبكل قوة- لهذا المشروع العنصري البغيض، ورفض خديعة التطبيع ومبادرات تسوُّل السلام، ورفض المفاوضات الهشّة التي تعقدها الأنظمة السياسية مع الكيان وتشبه المفاوضات بين الحمل وقطعان الذئاب، وهدفها الإقرار باغتصاب فلسطين.. كما لا بد من حشد الرأي العام، العربي والإسلامي والعالمي، لنصرة إخوتنا في الأرض المحتلّة، وملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة، والدعوة إلى الأخذ بأسباب القوة السياسية؛ بتحرير الشعوب من الاستبداد، وتربية شباب الأمة على الإيمان والجهاد، ودعم المقاومة بكل أشكالها، وكسر الحصار عن أهلنا في القطاع.
موجات التطبيع
ترتفع الآن أصوات على المستويات كافة، محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا، تطالب بالتطبيع مع العدو، وقد وقّعت بالفعل عدة أنظمة عربية معاهدات في هذا الشأن منذ عام 2020، وهناك موجة جديدة من دول أخرى، في مقدمتها المملكة السعودية بما لها من ثقل في العالمين العربي والإسلامي، تستعد للتطبيع.. وتطالب هذه الأصوات بإبرام معاهدات سلام كبادرة حسن نية نحو حل القضية الفلسطينية، في حدود ما يسمح به هذا الكيان الدموي من فتات، في ظل تأييد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي له، والحل في أقصى درجاته يتمثل في دولتين: دولة يهودية عنصرية تملك ترسانة من الأسلحة، ودولة فلسطينية لا حول لها ولا قوة، لا تعدو وحدة محلية تحت التحكُّم الكامل للكيان الغاصب، منزوعة السلاح فاقدة لمقومات الدولة.
ماذا يعني التطبيع مع الصهاينة؟
إن أي دعوة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني أو إبرام معاهدات سلام أو اتفاقيات اقتصادية أو غير ذلك مما يجري بين الدول تعني الآتي:
– إقرار المحتل على ما اغتصب من أرض فلسطين، والتفريط في بيت المقدس واستمرار تدنيسه بالوجود الصهيوني، والتفريط في المسجد الأقصى والمساعدة في هدمه.
– خيانة القضية الفلسطينية، ودعم محاولات تصفيتها، وطعن المقاومة في ظهرها، وتسهيل ظهور طابور خامس بين الشعب الفلسطيني.
– موالاة أعداء الأمتين العربية والإسلامية، والتنكُّر للشعوب الرافضة للتطبيع؛ ما يتسبب في إحداث شروخ جسيمة في وحدة الأمة تجاه القضية.
– إهدار ثروات الأمة، والنهب المنظّم لهذه الثروات من خلال إقامة علاقات اقتصادية مع العدو.
– يتناسى المطبِّعون سكان غزة الذين يعيشون أقصى درجات البؤس والشقاء نتيجة الحصار الإجرامي للقطاع، ويتناسون الإجراءات المتسارعة لتهويد مدينة القدس، وبناء الآلاف من الوحدات الاستيطانية الجديدة، وتسارع الحفريات تحت المسجد الأقصي، وبناء جدار الفصل العنصري، وطرد الفلسطينيين من بيوتهم، و(التطهير) العرقي حول القدس إلخ، يتناسون كل ذلك، ويتناسون قبلها رأي الشعوب التي لا زالت ترتل تلك الآية الكريمة كل لحظة: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة: 82)، وهو ما يحكم على مبادراتهم الاستسلامية بالفشل المسبق، ذلك حكم الله في اليهود، ولا معقّب لحكمه، وتلك إرادة الشعوب التي لن تسمح للمنبطحين بالمرور.