أصبح التنمر ظاهرة متفشية في مدارسنا العربية بما يمثله من سلوك عدواني يستخدم فيه المعتدون قوتهم البدنية أو النفسية أو الاجتماعية للحصول على شعبية أو معلومات أو سيطرة على الآخرين وإيذائهم؛ ما يعد تحدياً اجتماعياً وتربوياً خطيراً، خاصة بعد وصول تداعيات تفشي الظاهرة إلى حالات انتحار.
فالتنمر يكون بأفعال أو كلمات، مثل السخرية أو الإغاظة أو التهديد، أو الضرب والتسبب بالضرر للآخرين، وتؤثر هذه الأفعال أو الأقوال على الشخص المتنمَّر عليه تأثيرًا سيئًا يبقى معه لفترات طويلة ويؤثر على نموه وتعليمه وصحته، وقد يصل إلى حد الانتحار.
وظاهرة التنمر في المدارس العربية ليست جديدة، لكنها ازدادت حدة وانتشارًا في السنوات الأخيرة بسبب عدة عوامل، بحسب دراسة أجراها مركز دراسات التنمية في قطر عام 2018م، ومنها:
– التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشهدها المنطقة العربية، خاصة في العقد الماضي، وبعد جائحة كورونا، التي تؤثر على ظروف المعيشة والتعليم والأمن للأطفال والأسر.
– التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت والألعاب الإلكترونية التي تفتح مجالات جديدة للتنمر الإلكتروني أو الشبكي، الذي يكون أكثر خفية وصعوبة في ملاحقته ومعالجته.
– نقص الموارد والبرامج التربوية والإرشادية في المدارس العربية، وضعف دور المعلمين والإداريين في رصد ومنع ومكافحة حالات التنمر بين الطلاب.
– قلة الوعي والثقافة بخطورة ظاهرة التنمر على صحة وسلامة وحقوق الأطفال، وانعدام التضامن والتعاون بين جميع الأطراف المعنية (الأسر، المدارس، المجتمع، الحكومة) للحد من هذه الظاهرة.
أشكال التنمر
ووفق دراسة أجراها معهد دبي للاستشارات النفسية والبحث عام 2017م، فإن ظاهرة التنمر في المدارس العربية تأخذ أشكالًا مختلفة، منها:
– التنمر المباشر: بأن يتصل الشخص المتنمر مع الشخص الذي يتنمر عليه دون وجود حاجز بينهما، ويقوم بإلقاء شيء ما عليه، أو يصرخ فيه بكلمات مؤذية ومهينة، أو يضربه أو يدفعه أو يسحب شعره أو ملابسه.
– التنمر غير المباشر: هو ألا يتصل المتنمر بشكل مباشر مع المتنمَّر عليه، ولكن يقوم بنشر شائعات أو إشاعات حوله، أو السخرية منه أمام الآخرين، أو نبذه أو عزله من المجموعة التي ينتميان إليها، أو استخدام علامات لغة الجسد للتعبير عن الاستهزاء أو الازدراء به.
– التنمر الإلكتروني: هو استغلال الإنترنت والتقنيات المتعلقة به بهدف إيذاء أشخاص آخرين بطريقة متعمدة ومتكررة وعدائية.
ويحدث التنمر الإلكتروني عن طريق استخدام شبكات التواصل الاجتماعي لاستغلال المتنمَّر عليهم والسخرية منهم، أو تعنيفهم بالألفاظ النابية، أو استغلال معلوماتهم الشخصية أو صورهم.
تجاوزات جنائية
في السنوات الخمس الأخيرة، شهدت بعض الدول العربية حالات تنمر بلغت حداً جنائياً، ومنها حالة طالب سوداني في مدينة جدة السعودية، تعرض عام 2018م للضرب المبرح من قبل زميل له، حيث سحبه من شعره وألقى به على الأرض وضرب رأسه بقوة.
وأظهر مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي كيف كان الطالب يستغيث بصوت مسموع، لكنه لم يجد من يحميه.
وفي عام 2017م، انتحر طالب كويتي في مدينة نجران السعودية بإطلاق النار على نفسه بسلاح والده، بعد تعرضه لحالات متكررة من التنمر من قِبل زملائه في المدارس التي درس بها، وذكر والده، في تحقيق النيابة العامة، أن ابنه كان يشكو من «الإذلال».
وفي عام 2019م، انتحر طالب مغربي في مدينة الدار البيضاء بإلقاء نفسه من سطح المدرسة، بعد تعرضه لحالات متكررة من التنمر من قِبل زملائه، وذكر والده، خلال التحقيق معه، أن ابنه كان يشكو من التمييز والإهانة التي كان يتعرض لها بسبب لون بشرته وحالته الاجتماعية.
وفي عام 2018م، أصيب طالب تونسي في مدينة صفاقس التونسية بإصابات خطيرة في رأسه وجسده، بعد تعرضه للضرب المبرح من قِبل زميل له في المدرسة، حيث استخدم سلاحًا أبيض لطعنه عدة مرات.
أسباب وخصائص
ثمة أسباب تفسر انتشار ظاهرة التنمر في المدارس العربية، بعضها فردي، وبعضها يرتبط بالأسر والمدارس بحسب دراسات أجريت في السنوات الخمس الماضية.
– الأسباب الشخصية: تتعلق بصفات وخصائص الشخص المتنمر أو المتنمر عليه، مثل الشخصية الضعيفة أو القوية، أو الانطوائية أو الانبساطية، أو الجنس أو العمر أو الجنسية أو الدين أو المظهر الخارجي.
وقد وجدت دراسة مركز دراسات التنمية في قطر أن 64% من حالات التنمر تحدث بين طلاب من نفس الجنسية، وأن 36% من حالات التنمر تحدث بين طلاب من جنسيات مختلفة.
– الأسباب الأسرية: تتعلق بالعلاقة بين الطفل وأفراد أسرته، التي قد تكون مصدرًا للحب والدعم أو للعنف والإهمال.
وقد أظهرت دراسة معهد دبي للاستشارات النفسية أن 52% من المتنمرين يعانون من مشكلات في علاقتهم مع آبائهم، وأن 48% من المتنمَّر عليهم يعانون من مشكلات في علاقتهم مع إخوتهم.
– الأسباب المدرسية: تتعلق بالبيئة التعليمية والإدارية والتربوية في المدارس، التي قد تكون محفزة للتعلم والإبداع أو للضغط والإحباط.
وقد أظهرت دراسة أجراها مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 2016م، أن 44% من حالات التنمر تحدث داخل الفصول الدراسية، وأن 56% من حالات التنمر تحدث خارجها.
وأشارت الدراسة ذاتها إلى أن 68% من المتنمرين يشعرون بالملل والضجر في المدارس، بينما يشعر 32% من المتنمَّر عليهم بالخوف والقلق.
سبل الحماية
إزاء هذه الإحصاءات الكارثية، كيف نحمي أطفالنا من ظاهرة التنمر، خاصة في المدارس؟ تخلص الدراسات السابق ذكرها إلى ضرورة التدخل الفوري والشامل لحماية الأطفال من آثار التنمر المدمرة، على صعيد الأسرة والمدرسة من جانب، والمجتمع والحكومة من جانب آخر، عبر اتخاذ الإجراءات التالية:
– رفع مستوى الوعي بخطورة ظاهرة التنمر على صحة وسلامة وحقوق الأطفال، وذلك من خلال تنظيم حملات توعوية وتثقيفية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمدارس والمساجد والنوادي والجمعيات.
– تعزيز قيم التسامح والتعاون والاحترام بين الأطفال، وذلك من خلال تنمية مهاراتهم الاجتماعية والانفعالية والتفكيرية، وتشجيعهم على المشاركة في الأنشطة الجماعية والتطوعية والإبداعية.
– تقديم الدعم النفسي والقانوني للأطفال المتنمر عليهم، وذلك من خلال توفير خدمات الإرشاد والاستشارة في المدارس والمراكز المختصة، وتطبيق العقوبات المناسبة على المتنمرين والجهات المستغلة، وحماية خصوصية الضحايا وحقوقهم.
– تطوير البيئة التعليمية والإدارية في المدارس، وذلك من خلال تحسين البنية التحتية والمناهج والأساليب التدريسية، وتدريب المعلمين والإداريين على كيفية التعامل مع حالات التنمر، وإشراك أولياء الأمور في متابعة أداء أبنائهم.