يستمر الكيان الصهيوني في سعيه الحثيث لتحقيق أهدافه ذات الهوية اليهودية القومية الدينية كقوة إقليمية في المنطقة العربية وفرض شرعيته، وذلك من خلال معاهدات السلام وعمليات التطبيع لضمان بقائه داخل حدود آمنة معترف بها دولياً، وفي ظل تفوق حضاري، وعلاقات عميقة مع جيرانه العرب ودول الجوار الجغرافي الأخرى، وبما يؤمن سيادته على المنطقة سياسياً واقتصادياً.
وتنطلق الرؤية الصهيونية في بعدها الإستراتيجي الجيوسياسي تجاه منطقة الشرق الأوسط من مبدأ الحفاظ على الدعم الدولي، وشرعية وجودها اللذين تحتاجهما بهدف التوسع الجيوسياسي، وهو ما يفسر سعيها المستمر في تطبيع العلاقات مع دول المنطقة في شتى المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، إذ تؤكد مساعي الكيان لإقامة هذه العلاقات التطبيعية وتوقيع اتفاقيات السلام مع العديد من دول المنطقة، حاجتها لتلك العلاقات من أجل تحقيق أهدافها الجيوسياسية والتوسعية في المنطقة برضا عربي مصحوباً بترهيب أمريكي.
التطبيع الذي أراده الكيان يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى إلغاء الهوية والتاريخ والسيطرة على الأرض
فدولة الكيان لا تعدم وسيلة للبقاء جاثمة على الأرض الفلسطينية، في الوقت الذي تمنحها العديد من الدول العربية ترياق الحياة والبقاء، عبر عمليات التطبيع، غير آبهين بالأرض المسلوبة والدم النازف، فيما تسارع هي الخطى نحوهم عبر التطبيع باعتبار أنه الضمان الرئيس والأساس لبقائها في المنطقة، على أنها جزء منها، والتسليم بها وبوجودها كأمر طبيعي لا يقبل التساؤل، وبالتالي ضمان حدودها الطبيعية كدولة ضمن المنطقة، فيما الهدف السامي لديها آخذاً في التمدد نحو ترسيم حدودها التي حددتها التوراة لديهم «من النيل إلى الفرات»، وتحقيق هذا الهدف بشتى الطرق والوسائل.
شروط الواقع الراهن
يهدف الكيان الصهيوني من خلال عمليات التطبيع مع الدول العربية وفق شروط الواقع الراهن إلى تعزيز سياسة القبول بهذا الواقع، وبالممارسات الصهيونية على الأرض بحق الشعب الفلسطيني كدولة لها حقوقها، ويجب احترامها واحترام حقها في العيش والدفاع عن نفسها، ونفي صفة الاحتلال عن نفسها وذلك من خلال:
– الاعتراف بالحقائق التي فرضها الاحتلال عبر السنوات الطويلة وتشريعها وكأنها أصبحت مكتسبات له وبالتالي هي خارج النقاش، وبالتالي إقامة علاقات طبيعية معها دون شروط سياسية مسبقة.
– توقيع الاتفاقيات، حتى لو كانت مرحلية، يعني انتهاء الصراع والعداء وبالتالي ضرورة بناء العلاقات الطبيعية معها مثلها مثل أي دولة طبيعية في العالم.
– بناء علاقات طبيعية مع دولة الكيان سيساعد، بل هو شرط ضروري لتعزيز العملية السلمية.
في الوقت نفسه تتعدد دوافع التطبيع للدول العربية مع الكيان، بيد أن الجانب الأمني والحماية، والتسلح بالقوة والحصانة، وتعزيز المصالح السياسية والاقتصادية، والتخلص من العقوبات، وتعزيز الدور الإقليمي؛ أبرز تلك الدوافع العربية التي يتخذها الكيان ذريعة من أجل بسط نفوذه وتعزيز وجوده والتمدد جيوسياسياً وإقليمياً في المنطقة العربية، وبناء الشرق الأوسط الكبير الذي يقوده، وهو الهدف الذي تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية منذ بدايات التطبيع، والتسليم لها بالتفوق الإستراتيجي اقتصادياً وعسكرياً ومحاصرة وتجريم أي محاولة لمنافسته، والتسليم له بتخريب الوطن.
لا شك أن الكيان الصهيوني وضع لنفسه مكاناً في ظل الظروف الحالية في منطقة الشرق الأوسط، وبأساليب عبر علاقات متنوعة وعلى كافة المستويات بعد اتساع عملية التطبيع مع الدول العربية، باعتبار أن هذا التطبيع دليل على مرحلة الفاعلية السياسية لها، ووسيلة لمشروعية أفعالها في المنطقة، ولو أن ظاهر هذه التحولات قد أخذ ميلاً بائناً أولاً: من منظور تحييده للقضية الفلسطينية كمحدد أساسي لعلاقات الدول العربية مع الكيان، ورسم المنهج الذي يوجب إنهاء دوره كعائق أمام التطبيع العربي، وثانياً: التمدد الصهيوني الجيوسياسي داخل فلسطين ثم ما حولها واستخدام العلاقات التطبيعية وتوسيعها من أجل توسيع حدودها.
التفوق الجيوسياسي والاقتصادي للكيان لن يتحقق إلا بتعزيز مكانته في المنطقة بكافة الأشكال
إن مثل هذا التطبيع الذي أراده الكيان الصهيوني بالتخويف والترهيب تارة، والعصا الأمريكية تارة أخرى، يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى إلغاء الهوية والتاريخ والسيطرة على الأرض، ويكمن جوهره في القضية الجيوسياسية المركزية التي تواجهها دولة الكيان، وهي كيفية إقامة دولة يهودية وديمقراطية ضمن إطار حدود آمنة ومعترف بها؛ مما يتطلب إيجاد توازن بين أربعة عناصر، الجغرافي: والمقصود به العمق المطلوب عربياً وإقليمياً، والديمغرافي: والمطلوب له توافق وقبول عربي، والديمقراطي: المتعلق بحقوق الإنسان والتخلص من معضلة الاحتلال والسيطرة على الأرض، والشرعي: المتعلق بالقبول الدولي وفرض الأمر الواقع.
إن التفوق الجيوسياسي والاقتصادي للكيان لن يتحقق إلا من خلال تعزيز مكانته في المنطقة بكافة الأشكال، كالترهيب واستخدام أدوات السياسة الأمريكية كالعقوبات الاقتصادية الأمر الذي أرغم الكثير من الدول على تجنب الاصطدام مع الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها اليهودية في المنطقة، والجنوح نحو نسج علاقات معها اتقاء شرهما، حيث بات التطبيع واتفاقاته التي تشرف عليها الولايات المتحدة الأمريكية البوابة الواسعة لضمان التفوق الجيوسياسي والاقتصادي للكيان الصهيوني، فالتطبيع بات الاختراق الأخطر والأكثر إضراراً بمصالح شعوب المنطقة وقدرتها على تحقيق التنمية والاستقرار.
فالكيان الصهيوني يهدف إلى تطوير علاقاته الإقليمية الدفاعية والاقتصادية والثقافية مع عدد من الدول العربية، وذلك عن طريق العلاقات التطبيعية التي تضمن تعزيز مصالحه وهيمنته الإقليمية، وخاصة في مجال الأمن والدفاع، ومع مرور الوقت قد تؤدي زيادة شبكات التعاون والعلاقات مع الدول العربية إلى خلق أوضاع جديدة تؤدي إلى تحقيق الهيمنة الصهيونية الإقليمية، وترسيخها قائدة في المنطقة وهو ما قد يخلق مستقبلًا تناقضات جيوسياسية وتنافسات إستراتيجية لصالحها.
دولة اليهود الكبرى
يرى اليهود أن إقامة دولتهم في الأراضي الفلسطينية هو تنفيذ لوعد الرب بأن تكون أرض الميعاد لتكون منطلقاً لتحقيق هذا الوعد في إنشاء دولتهم الكبرى «من النيل إلى الفرات»، فهذه الدولة توشحت بالغطاء الديني لستر الغطاء السياسي لمشروعها التوسعي، واليهود الصهاينة أعلنوا دولة ليس لها حدود جغرافية معلومة، لذلك فإن فكرة أرض اليهود الكاملة ليست فكرة جديدة، بل رافقت الصهيونية منذ خطواتها الأولى، وآباء الصهيونية، مثل تيودور هرتزل، وزئيف جابوتنسكي، أثبتوا في كتاباتهم خرائط تمتد في بعض الأحيان إلى ما وراء حدود دولة الكيان القائمة اليوم ضمن الرؤية الجيوسياسية الصهيونية المستقبلية لدولة الكيان الكبرى التي لن تكون إلا على حساب الأراضي العربية المحيطة ضمن فكرة دولة اليهود الكبرى «من النيل إلى الفرات» التي ستفرضها واقعاً إما بالقوة العسكرية أو بالسياسة الناعمة المتمثلة في العلاقات السلمية والتطبيع.