خُلق أبوانا آدم وحواء مستورين بستر الله سبحانه، لكنَّ الشيطان لم يرتح له خاطر ولم يهدأ له بال حتى أوقعهما في الخطيئة والعصيان، وأراد أن يجردهما من هذا الستر، فتظهر لهما العورات، وتحقق له ما أراد.
وقد حذَّرنا ربنا سبحانه من الوقوع في تلك الفتنة، وعرَّفنا أن أشد الأعداء خطرًا هم أولئك الذين لا نراهم، ولا نلتفت لكيدهم، ولا نشعر بكيدهم.
قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27).
فمعركة الستر والعفاف من ناحية والتهتك والفجور معركة قديمة قدم البشرية لا ينطفئ أوارها، يسعى الشيطان وأتباعه من الجن والإنس لدفع البشر دفعًا نحو الفاحشة والعري.
فتلك المعركة سابقة لمعركة الإيمان والكفر والتوحيد والشرك؛ إذ قد يرضى الشيطان من المؤمنين الوقوع في معصية التبرج والسفور والسقوط في الفاحشة عن الوقوع في الكفر والشرك بالله تعالى.
والله تعالى يحب صون عباده عن الوقوع في الحرمات والفواحش، لذلك شدَّد العقوبة على الواقع في جريمة الزنى، ودعاه قبل ذلك أن يغض بصره عن الحرمات حتى يجعل بينه وبين الفاحشة سدًّا منيعًا.
وكانت غيرته سبحانه داعية لشدة المنع للحرمات وتأكيد حماية الأعراض؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه يرفعه قَالَ: «لاَ أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»(1).
ونادى النبي ﷺ أمته يوم كسفت الشمس وهم في خوف ووجل من تلك الآية العظيمة: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»(2).
فالغيرة على المحارم فطرة فطرها الله في الخلق إنسهم وجنهم حتى العجماوات.
وإن الإنسان في سعيه للرقي في مدارج الكمال يحاول الاتصاف ببعض صفات الحق سبحانه، والمتصف بالغيرة «قد وافقَ ربَّهُ سبحانه في صفةٍ من صِفاتِه، ومَنْ وافقَ الله في صفة من صفاتِه قادته تلك الصفة إليه بزمامه وأدخلته على ربِّه، وأدنته منه وقربته من رحمته، وصيَّرته محبوبًا له»(3).
أما ذلك المفرط في الحرمات المتبع للشهوات الذي انتكست فطرته، ولم يصل حتى للعجماوات في فطرتها من الغيرة على حريمها فإنه ممن لا يسعدون برؤية الله في الآخرة، وكفى بها من عقوبة، ثم إنهم لا يدخلون الجنة؛ قال نبينا ﷺ: «ثَلاَثٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ»(4).
وفي حديث آخر عرَّف رسول الله ﷺ الديوث بأنه «الذي يُقِرُّ في أَهْلِهِ الخُبْثَ»(5).
وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في نشر الفاحشة وتقريبها للناس دون سعي منهم إليها، وتيسير الوصول إليها دون عناء، وعدم إنفاق الكثير من المال للاطلاع على الحرمات.
واستغلت تلك المواقع والوسائل ضعف النفوس البشرية التي تسعى للربح السريع، ولو كان على حساب دينها وأخلاقها وفطرتها؛ ووفرت لهم الوسيلة التي تدر عليهم أرباحًا وفيرة من خلالها، فيتبدل حالهم من الفقر إلى الغنى الشديد والشهرة الواسعة.
وما على هؤلاء إلا تسليع جسدهم الذي يملكونه بتعريته أثناء الحديث وإظهار ما أمر الله بستره من العورات المخفف منها والمغلظ، أو بالرقص، أو الحديث الماجن، أو القيام بالأعمال المنزلية بملابس فاضحة أمام المتابعين، أو عرض أحدث صيحات الملابس الداخلية أو الخارجية على المتابعين ولبسها وخلعها أمام النظارة، أو الاستحمام أمامهم، أو عرض الحياة الشخصية بين الأزواج من السفر أو المشكلات أو اللعب أو الأكل.. إلخ.
وما كان يكون في الغرف المغلقة أصبح أمام النظارة بلا حياء.
وانتشر الأمر بالتقليد المقيت غير المبصر؛ فكثر السائرون في طريق الفاحشة والفساد والتهتك.
وقد يكون هذا من باب نشر الفاحشة بين الناس قصدًا لذلك، وليس فقط جلبًا للمال السريع الوفير، على طريقة قول القائل: «ودت الزانية أن النساء كلهن زوان»(6)، وهؤلاء يقعون تحت الوعيد الشديد لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) (النور: 19).
وقد تكون الدياثة برضاه بما يفعلن حتى وإن لم يشاركهن فيما يقمن به من فجور وإسفاف؛ فمسؤوليته المخولة له كانت تحتم عليه المنع وتغيير المنكر، أو إعلان البراءة من تلك الأفعال الساقطة، لكنه يقع في الدياثة بإعلان الرضا والإيمان بالحرية والمسؤولية الشخصية لحريمه.
وهؤلاء وأمثالهم لا يقدرون العواقب الوخيمة لأفعالهم في الدنيا والآخرة؛ فقد تغريهم الأموال الطائلة والشهرة الزائفة، لكنهم يصبحون عبيدًا للمال وللرغبات الشاذة للرعاة والمتابعين، وينسون أن «من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر»(7).
ثم إن بقاء الجسد على ما هو عليه من الجمال والنضارة أمر محل نظر، ويوشك أن تتبدل به الحال.
وهؤلاء مكتوب عليهم فقدان العافية بهتكهم لحرمات الله عليهم، وإعلانهم بها دون خجل أو حياء، قال أبو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»(8).
ومن نتحدث عنهم أسوأ حالاً ممن ورد الحديث في وصفهم وذمهم؛ فهؤلاء لم يرهم الناس، لكنهم راحوا يحدثونهم بما فعلوا، أما هؤلاء الديايثة الجدد فإنهم يعرضون عورات حريمهم أمام الألوف والملايين في بث حي أو مسجَّل.
وهؤلاء إن لم ينتهوا من ذوات أنفسهم فعلى الدول أن تراقب تلك المواقع وتوقف تلك الأنشطة المخلة بالآداب والأديان، وإن لم تفعل فهو الفساد الماحق للجميع.
_________________________
(1) أخرجه البخاري في «التفسير»، باب: «قَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾»، ح(4634).
(2) أخرجه البخاري في «الكسوف»، باب: «الصَّدَقَةِ فِي الْكُسُوفِ»، ح(1044).
(3) الداء والدواء لابن القيم، ص44.
(4) أخرجه أحمد في «مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما»، ح(6180)، وحسَّن إسناده شعيب الأرنؤوط.
(5) أخرجه أحمد في «مسند عبدالله بن عمر رضي الله عنهما»، ح(6113)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
(6) سمط اللآلي لأبي عبيد البكري، (1/ 907).
(7) البحر المديد لابن عجيبة، (2/ 41).
(8) أخرجه البخاري في «الأدب»، باب: «سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ»، ح(6069).