خمسون عاماً تمر على ذكرى نصر الأمة في 10 رمضان 1393هـ، 6 أكتوبر 1973م، ومنذ ذلك التاريخ لم ترفع الأمة هامتها بصورة حقيقية إلا في هذا اليوم 7 أكتوبر 2023م؛ حيث فاجأتنا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعملية حربية مكتملة الأركان، بل وفاجأت العالم كله بحجم الإعداد الهائل والدقيق لهذه العملية رغم ظروف الحصار المشدد في قطاع غزة الحر.
في الساعة السادسة والنصف صباح 7 أكتوبر 2023م، قام الأحرار من «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، بعملية اجتياح للمستوطنات المتاخمة لقطاع غزة براً وبحراً وجواً، بعمل نوعي نفذه المئات من المقاومين البواسل الذين قاموا بمباغتة العدو ليحصدوا أرواح عدد من الجنود والأسرى الصهاينة والعتاد، ويتجولوا بين المستوطنات بحرية كاملة، وقاموا بشلّ الحياة تماماً داخل الكيان، وسيطروا على مواقع عسكرية عدة، بعد أن فرغت من المستوطنين بعد هروبهم في مشهد سجلته كاميرات وسائل الإعلام العالمية وبثته بعض القنوات العربية، وتنشر «القسام» الصور المتتابعة لأسر العديد من الجنود والمستوطنين.
«طوفان الأقصى».. وردود الفعل
يكفي أن تفتح محركات البحث على كافة وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان «طوفان الأقصى»؛ لتجد تفاعلاً أسطورياً يتناسب مع ملحمة المقاومة والعملية الجبارة، ويقف الاحتلال أمامها عاجزاً، معبرة عن فرحة الأمة كلها بما يدور، وبأنها في حاجة للمزيد من المقاومة والانتصارات لتغسل عار سنوات الهزيمة، ورغم التفاعل والدعم المعنوي الكبيرين لجيل ولد معظمه في فترة الهزائم والتراجع، فإنه ليس كافياً لدعم المقاومة الفلسطينية والوقوف كظهير شعبي خاصة في دول الجوار الجغرافي.
إن الشعوب قد لا تدرك حجم ما يفعله التظاهر في عواصم بلادنا الإسلامية دعماً للقضية، لكنه لا يمثل ضغطاً على الحكومات للمؤازرة فحسب، وإنما يمثل دفعاً للمقاومين لصنع المعجزات في عملياتهم الجهادية، وتظهر الأمة متماسكة قوية متلاحمة أمام عدوها الذي يستند إلى دعم عالمي، وهو ليس صاحب الحق في تلك الأرض.
نعم، لقد تفاعلت الشعوب مع المقاومة منذ اللحظة الأولى، وأظهرت كراهيتها للعدو، وتوحدت على مشاعر كانت مكبوتة، وأثبتت أن الخير فيها إلى يوم القيامة، وأن سياسة التفرقة الجغرافية التي وضعتها «سايكس بيكو» ما هي إلا وهْم في رؤوس من يخطط لفرقتها، وأنه مع أول اختبار حقيقي لمشاعر تلك الشعوب سوف تظهر أصالة معدنها رغم التآمر المستمر عليها.
لقد اجتمعت الأمة اليوم من المحيط إلى الخليج مبتهجة بالنتائج المبشرة وبمشاهد رد الحقوق المتواترة عبر وسائل الإعلام، وسوف تجتمع غداً على الأرض، وما يحدث ما هو إلا تأجيل لهذه اللحظة، تصديقاً لكتاب الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم التي نؤمن بها، لقد قدمت المقاومة اليوم هدية للأمة بعدما وعد القائد محمد الضيف وصدق في وعده، لكن هل كان رد الفعل هذا كافياً رغم اتساعه؟!
واجب الشعوب الإسلامية اليوم
بالرغم من الانتصارات الكبيرة اليوم، فإننا نتوقع كما يتوقع الجميع رغم الشلل الذي أحدثته المقاومة في المستوطنات الصهيونية، ورغم الانسحاب المخزي للمتطرفين من المسجد الأقصى المبارك، ورغم أعداد الأسرى غير المسبوق؛ نتوقع أن يكون الرد العسكري للكيان كبيراً، وأن يكون الانتقام من قطاع غزة أكبر مما نتخيل، برغم ذلك فإننا ما زلنا نملك كشعوب أن نقلل من حجم تلك الضربة المتوقعة، ورد الفعل يجب أن يكون على ثلاثة محاور:
الأول: في الداخل الفلسطيني نفسه، بأن تتحول الأرض الفلسطينية كلها لما يشبه انتفاضة شاملة توقف الحياة في الكيان تماماً؛ فلا يستطيع أن يفيق أو يركز في رد فعله على مناطق المقاومة وحدها، إن تحرك فلسطينيو الداخل لن يربك العسكريين وحدهم، وإنما سوف يمثل ضغطاً داخل الشارع الصهيوني للتهدئة على إثر العمليات العسكرية المرعبة لهم، سوف يقومون بالضغط على قادتهم العسكريين لقبول مفاوضات ما لوقف الحرب التي لا يستطيعون مواجهتها طويلاً، وستقوم الانتفاضة الداخلية بتشتيت القوة الصهيونية المزعومة؛ فلا يكون الهجوم مكثفاً على غزة وأهلها التي تحملت حتى الآن ضريبة القضية وتبعات التكفل بها راضية محتسبة.
الثاني: خارج فلسطين المحتلة؛ وتقع المسؤولية كاملة على الشعوب المسلمة التي يجب أن تقوم بعدة أدوار وليس التظاهر فقط أمام سفارات الكيان، وفي الميادين الرئيسة دعماً لرجال المقاومة ومن معهم، والدعوة لفتح الحدود وفتح باب الجهاد وفتح أبواب التبرع للإنفاق على أهل فلسطين في كافة المناحي الاجتماعية والسياسية، وحمل الأنظمة على قبول نقل المساعدات التي تتكفلها الشعوب المسلمة.
لقد آن الأوان أن تنتقل القضية عملياً من مرحلة الشجب والاستنكار وإبداء الأمنيات إلى مناطق عملية تفرض فيها الشعوب كلمتها وإرادتها، وأما السلاح النافذ الذي تملكه الشعوب المليارية المسلمة فهو السلاح الاقتصادي، وتهديد الدول التي ما زالت تدعم الكيان بالمقاطعة الاقتصادية التي تعني مقاطعة السلع والمنتجات الخاصة بها، وهو سلاح عظيم يهدد أي دولة، بل يجبرها على وضع العديد من الاعتبارات قبل أن تقف موقفاً ضد مصالح المسلمين أو حقوقهم.
الثالث: علماء المسلمين ووسائل إعلامهم الحرة، فلن تعدم الأمة علماء أحراراً يضعون أرواحهم على أكفهم للدفاع عن مقدساتها، وهم موجودون في كل قُطر من أقطارها، ينقصهم فقط إرسال رسائل منظمة وموحدة لقادة العلماء وشعوب العالم، وإذكاء روح المقاومة لدى الشعوب، والتذكير بالقضية والتوعية بها، وتعريف الأجيال الجديدة بها عبر كل وسائل الإعلام المتاحة.
لقد أعطت المقاومة الفلسطينية للأمة اليوم هدية كبيرة يجب أن تستثمرها لتُحييها لتبدأ من جديد بعد فترة ركود، هدية أثبتت أن الأمة ما زالت بخير، غير أنها في حاجة لتوحيد الجهود وتنظيمها ليقوم كل فرد فيها بمهمتها دون انتظار غيره، ليبدأ وليسأل نفسه في كل لحظة: ماذا قدمت لفلسطين اليوم؟ لقد قدمت «حماس» قُبلة الحياة للأمة التي كادت أن تموت، وآن الأوان أن تنهض ملبية النداء، فحي على الحياة، حي على الجهاد!