إن الأحداث الكبرى في عمر الأمم ليست مجرد أزمان أو أماكن، لكنها يجب أن تكون جسوراً لتحولات حضارية في شخصيتها التاريخية، إما أنها تقوم بعملية فرز لكل دخيل بها، أو تقوّم معوجاً طرأ على تلك الشخصية، والحدث الأكبر الذي ما زال جاريًا في أمتنا الآن زمنه السابع من أكتوبر 2023م، ومكانه بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وإشعاعه يملأ العالم والأمة الإسلامية نوراً وهدى.
تلقت أمتنا هزائم نفسية عديدة خلال نصف القرن الماضي، خلقت تلك الهزائم النفسية شخصية يائسة بائسة من تحقيق أي نصر، أو تقدم في ميدان التحرر والحياة، حيث جلبت لها الأنظمة الحاكمة كل ضعف وذل وخضوع وهوان؛ بالاستكانة إلى أعدائها، والتماهي مع مشروعهم الاستعماري، وتكريس الاحتلال، ودعم دولته المغتصبة مادياً ومعنوياً.
حدث كل هذا بينما كان هناك نور يتكون في أحشاء هذه الأمة، ودون أموال الربا واتفاقات القروض، نور تكوَّن على أيدي تلك الفئة الظاهرة المؤمنة بالحق والحقيقة التي شربت حلالاً وطعمت حلالاً، فأنار الله قلبها وعقلها بالحقيقة، والحقيقة الكاملة.
استطاعت «الفئة القليلة» أن ترسم نوراً جديداً لأمتنا نرى فيه القرآن يتحقق من جديد، وننتقل فيه وبه ومعه من قراءة الآيات إلى رؤية الآيات ومعايشة تكونها؛ (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 249).
إن إشعاعات هذا النور الجديد في الأمة يجب أن يتغلغل في نفوس أفرادها وفي نفوس أطفالها ونسائها وبناتها وشبابها، لا ينبغي أن يتوقف في الزمان والمكان، لا بد أن ينتشر في كل زمان ومكان تتمدد فيه هذه الأمة؛ لأنه السبيل الوحيد لخلاصها وتحررها من كل صور الطغاة والطغيان، ومن كل الناكثين والمارقين والقاسطين عن الحق.
إن هذا النور الجديد علينا أن نستبدله في بناء الأمة العقدي والفكري والتربوي والثقافي، كي نخلق شخصاً جديداً، وإنساناً فريداً يتحقق فيه «إنسان القرآن»، ويحقق هو نفسه غايته وغاية رسالته في إبلاغ الهداية إلى العالمين.
الحق.. والحق وحده
لقد تربت هذه الفئة القليلة على الارتباط بالحق، والحق وحده، ولكنها لم تنسلخ من حقيقة الواقع، إلا تحسيناً وتغلباً وإعداداً في ظل عناصره غير المواتية، لقد كان ارتباطها بالحق نوراً هادياً لهذا الإعداد والتغلب على العوامل غير المواتية، بل على العوامل المعاكسة والمناهضة للحق في كل زمان ومكان.
كانت الحقائق واضحة للفئة القليلة، لم يغم عليها شيء ولم يستطع ما عمي على الآخرون أن يتمكن منها، فرأوا الأعداء أعداء، ورأوا الإخوة والأصدقاء على حقيقتهم، لم تستبدل لديهم الحقائق، ولم يستطع فيروس «التطبيع» أن يستبدل الأماكن، ولم يحل الصادقين محل الكاذبين، ولم يحل الكاذبين محل الصادقين لديهم، كانت كل الحقائق واضحة في هذه البقعة الصغيرة من العالم، وفي نفوس هذه الفئة القليلة من بين مليار ونيف مسلم.
النقلات والتحولات الواجبة في ضوء هذا النور الجديد لا يمكنها أن تنحسر في شعارات أو مقالات، بل يجب أن تكون كمان نطق بها النور الجديد في إعادة التكوين والتأهيل والبناء لنفوس هذه الأمة التي كادت أن تموت لولا أن منَّ الله عليها بهذا النور الجديد، الانطلاقة واجبة لكل من كان يسأل: أين الطريق؟ هذا هو الطريق هذا هو الطريق.
إن استعادة الأمل المفقود أصبح عملاً مباحاً مشروعاً، بل واجباً على كل مؤمن حر شريف، يناضل من أجل هذه الأمة وهذا الدين، وهذا القرآن، لقد أنقذنا هذا النور الجديد من وحل اليأس الكامل الذي أرادوه لنا، وفجأة تحول الضعف الظاهر إلى قوة قاهرة، والسر في الإيمان بالرسالة والمبدأ والفكرة.
هذه هي مقومات النور الجديد الذي تمكن من البعث والإشعاع في النفوس قبل الأماكن والشاشات والوسائط.
فلنسر جميعاً؛ شرفاء هذه الأمة، على هدي هذا النور الجديد، ونستلهم منه مقوماته ومكوناته وإضاءاته الباهرة، يجب ألا نتخلف عنه، يجب علينا بعد الآن ألا نتعذر، ولا أن نهون أو نتهاون بعد الآن؛ (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).