في زماننا خرج أبو جهلٍ من خلف الستار، وطفق يبذل قصاراه(1) لينال من الشعار، ينال من الرمز الشريف صلى الله عليه وسلم، وفي حرب خاسرة يحرك ريشة فاجرة، ومن رَحِمِ الكفر يخطّ خطوطًا تنضح حقدًا، وتطفح حسدًا، ولئن كنَّـا على يقين بأنَّ سعي أبي جهل -قديمًا وحديثًا- لم يَرْق، ولن يَرْقَى إلى سعي طفل غرير يحمل نبلًا، ويصوبها نحو القمر يدفعه خليط مُرَكَّز من الوهم والغباء إلى الأمل في إصابته، فإنَّ هذا المعنى لا يدفعنا إلى الصمت، وإنَّـما يدفعنا بقوة إلى التساؤل: ماذا تصنع كشاب مسلم إزاء سعي أبي جهل الحديث، والحثيث، والخبيث؟
وقبل أن تفكر لتجيب، تعال إلى خبر فتى مسلم خاض غمار(2) وشدائد حرب «بدر»، سعيًا صائبًا صوب الجنة، وواجبًا نحو الرمز الشريف صلى الله عليه وسلم لمَّا علم أن رأس الكفر أبا جهل يسبَّهُ، وإليك خَبرَهُ:
في يوم «بدر» الأَغر تراءى الجمعان، جمع الله وجمع الشيطان، كان جيش المسلمين قد خرج يشعر بحقه، يطمح إليه، ويسعى من أجله سعيًا جادًا.
وكان جيش قريش قد خرج يشعر بعزته الزائفة، تلكم الشهوة التي يثيرها الشيطان في نفوس أوليائه، يطمح إلى استمرارها، ويسعى إليها سعيًا جادًا.
كلهم عرب ولكن، لئن يشابه الناس في الميلاد، والجنس، والخلق، فإنهم يتمايزون(3) في العقيدة، والعمل من أجل الحق، ونظر التاريخ إلى جيش المشركين فرأى أبا جهل وهو يُقوِّمُ صفوف المشركين ويحثُهم على إبادة المسلمين.
ثم التفت التاريخ إلى جيش المسلمين فرأى فيما رآهُ الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه واقفًا بين غلامين لم تحملْهُما السنون بعد إلى أول الشباب، فقال عبدالرحمن بن عوف في نفسِه: ما يوقفُني ها هنا؟! ألا أذهبُ فأقف بين أقوى منهما؟
وبينما كان يَشرُع بالانصراف غمزَهُ أحدُهما سائلًا: أي عمِّ، هل تعرف أبا جهل؟ فردَّ عبدالرحمن سؤالًا بسؤالٍ: وما تريد منه يا ابن أخي؟ فأجاب الفتى جوابًا أثار عجبَهُ وإعجابه، ولا ريب سيثير عجبك وإعجابك كشاب مسلم! قال الفتى: أَرِنِيهِ فإني أُخبرتُ أنه يسبّ رسول الله، وقد عاهدتُ الله إن رأيته لن أفارقه حتى يموت الأَقرب أجلًا منَّا.
أطرقَ(4) عبدالرحمن إطراقة تعجب! ثمَّ تحول بوجهه تجاه جيش قريش فلمح أبا جهل ذاهبًا جائيًا على صهوة جواده، وقد انتفخ صدره، وانضوت(5) نفسه على ضغينة لا تحدّها حدود للإسلام ورسوله، فقال للفتى: هذا أبو جهلٍ.
فتطلع إليه الفتى معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري(6) وقد غلت مراجل الحميِّة(7) في صدره، لكأنما يحدث نفسه: لقد التمستُك يا أبا جهل وها أنا وجدتك، اليوم سأرد لك الحجر صخرة، وأكيل لك الصاع صاعين، ولئن مكنني اللهُ منك لأرسلنَّك إلى جهنم، ووالله إنَّك لقاتلي إن لم أجد إلى قتلِكَ سبيلًا.
وما أن دوَّتْ الحرب حتى عَصَفَ(8) الفتى صوب أبي جهل فوجد صاحبه معاذ بن عمرو قد سبقه إليه وضربه ضربة قطعت ساقه وأسقطته عن فرسه، فطعنه هو طعنات أثْبَتتْه، وبينما كان أبو جهل مجندلًا مذعورًا أبصرَهُ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وأدركه وما زالت به فضلة من أنفاس فاعتلاه في خفة قائلاً: ها قد أخزاك الله يا عدو الله، وأَلْفَى أبو جهل نفسه في صِغَارٍ لم يكن يألفه، وحالة استسلام لم يسمع بها من قبل، فثاب إليه شيء من صلف، وبقية من كِبْر، فقال في نبرة متقطعة وصوت متهالك: ها أنت ذا يا رويعي الغنم، لقد ارتقيت مرتقا صعبًا.
وبينما كان يضيف: لو قتلني غير أكَّار(9)، حزَّ ابن مسعود رقبتَهُ بسيفه.
لو قتلك غير أكَّار؟! يا أبا الجهل متى كان في الموت كِبْرًا؟!
وها أنت ذا تتلقاك زبانية جهنم ليس فقط ليرتاح الغلامان، وإنَّما ليرتاح المسلمون عبر كل الأزمان، فقد كنت مع الجهل، وكان الجهل معك يدور، وكان لفعل الغلامين بك ما بعده، حيث اشتد الكرب على قريش لفقدك مع الكثير من سادتها يومذاك، وفتّ ذلك في عضد جيشها، وفقد حَوْلَهُ وَطَوْلَه، ولم تنفق الحرب من الوقت إلا ساعة حتى زادت مقاعد الكافرين في جهنم سبعين مقعدًا، وأُسِرَ من أُسِر، واسْتَأْسَر من اسْتَأْسَر، وأنزل الله بقريش من الهزيمة والخزي ما يُزلزل الجبال الصِّلاب.
ووضعت «بدر» أوزارَها، وأسرع معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهما مع أبي جهل، فهزَّ صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف سعيد الضمير، مغبوط النفس سائلًا: «أيكما قتلَهُ؟»، فقال كلاهما بينما يعتملُ داخلَهُ مهرجانُ فرحٍ عظيمٍ: أنا قتلتُهُ، فسألهما: «هل مسحتُما سيفيكُما؟»، قالا: لا، فنظر صلى الله عليه وسلم في السيفين ثم قال: «كلاكما قتَلَهُ»(10).
وبعد، فقد أخذ معاذ بن عفراء حظَّهُ من العزة والمكانة بفعله هذا، وطار ذِكْـرُهُ في الآفاق المسلمة، وتسامعت بخبره الأجيال، وها نحن نذكرُهُ صباح مساء.
معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري الخزرجي النجاري المعروف بابن عَفْرَاء وهي أمُّهُ، أدركتْهُ الرجولةُ قبل أوانِها فشهد في صباه بيعتي العقبة الأولى والثانية، وكان أحد الستة الأوائل الذين أسلموا على يد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فَشَرُفَ بلقبِ «عقبيّ»، وَنَعُمَ بلقبِ «بدريّ»، وشهدَ الغزواتِ كلَها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقُتِلَ أخواه عوف، ومُعَوِّذ، بـ«بدر» شهيدين.
وما أحبّ شيئًا كالجهادِ سوى الصدقة، فكان لا يدعُ شيئًا إلَّا تصدَّق بهِ، فلما وُلدَ له استعانت امرأته بأخوالِهِ فكلموه: كثرُ عيالُكَ فلو ادَّخرْت شيئًا لهم، فقال مازِجًا كرَمَه بزهدِه وتقواه: أَبَتْ نفسي إلَّا أن أستَتِرَ من النارِ بكلِ شيء أجدُهُ.
وعاش مجاهدًا زاهدًا حتى تُوفي في خلافة عثمان بن عفان، وقيل: بل في خلافةِ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وجمعَهم عندَه في عليين.
________________________
(1) أقصى جهده.
(2) اقتحم أهوالها.
(3) يختلفون.
(4) صمت للحظة.
(5) انضمت وانطوت.
(6) طبقات ابن سعد (3/ 491)، طبقات خليفة (90)، تهذيب الكمال (1338)، الإصابة (8057)، أسد الغابة (4962).
(7) مراجل: جمع مرجلة، وهي مجموعة صفات من شهامة ونخوة وإقدام وما شابهها.
(8) انطلق نحوه كالعاصفة.
(9) الأجير.
(10) حديث صحيح: أخرجه البخاري (3141) في كتاب فرض الخمس، ومسلم (1752) في كتاب الجهاد.