في بضع دقائق، استطاعت المقاومة الفلسطينية المتمثلة في «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، تحويل مستوطنات غلاف غزة لمكان مرعب، حيث خدعت المخابرات الصهيونية، ووحدته التجسسية «8200»، وطوّرت نظام اتصالات لا أحد يعلم سرّه، كما نشرت 5 آلاف صاروخ في مواقعها قبل الهجوم، وعدداً كبيراً من القوات البرية، ودخلت بهجوم مظلّي دون علم دولة الكيان الصهيوني المتقدمة تكنولوجياً.
وتمكن مقاتلو «القسام» من تخطي نظام الدفاع متعدد الطبقات الذي صرف عليه الاحتلال المليارات، وعطلت أنظمة الإنذار الإلكترونية الحدودية، وظهرت مظلاتها على الرادار كالطيور، وحوّلت العدد الكبير من كاميرات وأجهزة الاستشعار الصهيونية إلى خردة غير قابلة للاستخدام، وفجروا السياج واخترقوا الحدود وقتلوا المئات من الجنود في المعسكرات والثكنات أثناء نومهم، وأسروا أعداداً كبيرة وساقوهم كالأغنام الى قطاع غزة.
لقد رأت دولة الكيان التي تتفاخر بقوتها العسكرية وجيشها الذي لا يقهر وأجهزة استخباراتها الأمنية صوراً لم ترها في حياتها؛ سيارات عسكرية فلسطينية تقوم بدوريات في مدنها ومعسكراتها، وراكبو دراجات هوائية من غزة يدخلون بواباتها، هذه الصور التي مزقت عباءة الغطرسة الصهيونية ومرغت أنوفهم في الرمال لن ينساها الصهاينة، وستبقى في ذاكرتهم وذاكرة الفلسطينيين الذين قرروا واستعدوا لدفع أي شيء مقابل الحصول على لمحة من الحرية، وبصيص من أمل النصر والتحرير الذي غفلت عنه قرارات الشرعية الدولية وحتى العربية.
عبورٌ من المستحيل إلى الممكن، إلى عبارة طالما رددها الفلسطينيون «العودة حق كالشمس»، التي رسخها أبطال «القسام» وهم يجتازون الحدود نحو شروق جديد في عهد الصراع مع الاحتلال، يباغتونه في غلاف غزة من كل مكان قتلاً وأسراً، إنها دهشة وصدمة وذهول فوق الوصف! وفرحة كبيرة تجاوزت كل حدّ، وفخر وانتشاء يفوق التوقع، كلها كانت حاضرة فلسطينياً وعربياً أمام مشاهد أبطال «كتائب القسام» في معركة «طوفان الأقصى»، وهم يصنعون حدثاً تاريخياً وهزيمة إستراتيجية للاحتلال الصهيوني ومنظومته كافة.
إن ما حدث كتابة جديدة للتاريخ، وتصحيح للمفاهيم، وخروج على النص، وكأننا في حلم لا واقع، فرجال «القسام» الذين باعوا لله أنفسهم اقتحموا المعسكرات وتجولوا في المستوطنات، وهم يواجهون أعتى قوة بأبسط سلاح وأقوى إيمان وأصلب إرادة، لم يذهبوا لنزهة، ذهبوا وقد ودعوا أحباءهم الوداع الأخير دون أن يخبروهم عن الوجهة والغاية.
بين يوم وليلة صارت كل الأخبار عادية ومألوفة، سقوط مئات القتلى من العدو، آلاف الجرحى، عمليات أسر لا تتوقف، هبوط مظليين خلف الخطوط، «كوماندوز» بحري، اقتحام «القسـام» للمواقع والحصون وتحييد من فيها، عملية تسلل هنا، احتجاز رهائن هناك، فقدان العدو اتصاله مع مجموعات من جنوده، آلاف الرشقات الصاروخية على المدن الصهيونية، «تل أبيب» أو سواها.. إن هذا لا يمكن أن تنساه الذاكرة أو تمحوه الأيام وستسجله الأقلام والصحف.
معطيات معركة «طوفان الأقصى»
في فجر 7 أكتوبر 2023م، شنت «كتائب القسام» عملية عسكرية نوعية أطلقت عليها عبر قائدها محمد الضيف «طوفان الأقصى»، أحدثت زلزالاً أمنياً وسياسياً مدوياً في دولة الكيان الصهيوني، وستكون لها ارتدادات قوية على السياق الإقليمي المؤثر في ديناميكية الصراع الفلسطيني الصهيوني، إذ كشفت هذه العملية عن حالة الهشاشة والضعف التي يعاني منها المجتمع الصهيوني، التي انسحبت إلى المؤسسات الأمنية التي فشلت في توقع هذا الهجوم، وفرضت معطيات جديدة لطبيعة الصراع الفلسطيني الصهيوني التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
1- لقد عكس شكل الهجوم للعملية العسكرية التي خاضتها حركة «حماس» من ناحية «توغل» عناصرها في أراضي غلاف غزة التي تحتلها دولة الكيان؛ براً وجواً وبحراً، وعدم الاكتفاء فقط بالرشقات الصاروخية وفق النمط المعتاد للتصعيد، قواعد جديدة للاشتباك تجمع بين المستويين التكتيكي والإستراتيجي، وكان التطور أن المبادرة هذه المرة جاءت من الجانب الفلسطيني، على نحو عكس حالة الانكشاف في عملية الردع التي تعانيها المؤسسات الأمنية والعسكرية الصهيونية تحت وطأة أزمات الداخل التي يواجهها الائتلاف الحكومي نتيجة سياساته المتطرفة.
2- تعزيز الموقف التفاوضي المستقبلي لحركة «حماس» بعد أسرها لعدد كبير من العسكريين الصهاينة، مقابل دولة الكيان التي ستكون في هذه المرة في موقف أضعف أمام هذه الحدث الكبير.
3- إعادة الزخم للقضية الفلسطينية في مواجهة المشروعات الإقليمية الجديدة، وإنهاء طموحات دولة الكيان في تصفية القضية الفلسطينية وقتلها؛ وبالتالي فرضت هذه المعطيات القضية الفلسطينية باعتبارها رقماً مهماً لا يمكن تجاهله في حسابات المشروعات الإقليمية المرتبطة بمسار الاتفاقات الإقليمية.
4- جرفت هذه المعركة المعادلات القائمة في منطقة الشرق الأوسط، وفرضت انقلاباً لا يزال مجهول المعالم، وستفرض معادلات جديدة وواقعاً جديداً في قضية الصراع وإدارته في المستقبل من باب ما يمكن تحقيقه عبر فوهة البنادق أقوى من الاستجداء، وما أُخد بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، واعتبار «حماس» لاعباً جديداً لا يمكن إغفاله في الصراع.
إخفاقات الاحتلال
إن هذا الهجوم الفلسطيني المباغت والواسع وضع رئيس الوزراء الصهيوني «بنيامين نتنياهو»، وحكومته، في مأزق كبير أمام الرأي العام الصهيوني والعالم، فلم يسبق أن تعرضت دولة الكيان إلى هجوم بهذا الشكل وبهذه الكيفية، فكل الحروب التي خاضتها الجيوش العربية ضدها جرت على أراض عربية، أما هذه المرة فهاجمت «حماس» البلدات والمستوطنات الصهيونية، وخاضت معركة قوية على أراضيها، وطاف مقاتلوها داخل هذه المستوطنات سيراً على الأقدام أو بعربات عسكرية استولوا عليها خلال الهجوم بكل طمأنينة وكأنهم في نزهة.
كذلك لم يسبق لأي فصيل فلسطيني منذ إعلان قيام دولة الكيان أن نجح في تنفيذ هجوم منظم بهذه الكيفية، وقتل هذا العدد من الجنود وأخذ أسرى عسكريين بهذا العدد، وهو ما يؤكد نجاح حركة «حماس» عسكرياً وتطوير منظومتها العسكرية والأمنية والاستخبارية، وهشاشة منظومة الأمن الصهيونية التي سجلت العديد من الإخفاقات بعد هذا الهجوم، أهمها:
1- عدم رصد استخبارات الاحتلال لأي استعدادات للمقاومة الفلسطينية و«كتائب القسام» في غزة، رغم التخطيط والتجهيز الذي استغرق وقتاً طويلاً دون معرفة ذلك؛ مما يؤكد قوة «حماس» في التعتيم والتمويه، ونجحت في تحييد الاستخبارات الصهيونية ذات القدرات العالية.
2- غياب المعرفة المسبقة بالهجوم أسقط التشكيل الدفاعي المخطط المحيط بغزة لحماية المستوطنات والتصرف بعشوائية كبيرة، وانتظار ساعات طويلة دون توجيه ومعرفة آليات العمل والتصرف من قبل الجيش والاستخبارات الصهيونية.
3- هذا الهجوم المتقن والمخطط له من قبل «حماس» ومقاومتها أظهر هشاشة غير عادية للجيش الصهيوني وقوات الأمن والاستخبارات، وكشف عورتهم وأسقط نظرية الجيش الذي لا يُقهر والقوة الرابعة عالمياً على المستوى العسكري.
لقد كان لدى الفلسطينيين خيارات محدودة لمنع تصفية القضية وحسم الصراع لصالح دولة الكيان، والتصدي لمسار دمجها في المنطقة، ومنع قيادتها من تقرير مصيرها، من خلال عمليات التطبيع، والخيار الأكثر فاعلية هو المقاومة العسكرية من غزة، فجاءت معركة «طوفان الأقصى» الحالية كي تعطل مسارات تصفية القضية وتجاوز الفلسطينيين عبر مسارات محلية وإقليمية ودولية.