لم يعد يخفى على الأفراد والشعوب بجميع أطيافها واختلاف مدارسها من المنصفين والمثقفين أصحاب القيم والمبادئ الثابتة، لا أقول الإسلامية فحسب، بل الإنسانية والثقافية والعلمية وغيرها ما أصبح عليه المجتمع الدولي بنخبه وساساته وأنظمته من اتباع هذا المنهج وتكريسه واستخدامه، بل وتوالده بينهم ونماء صوره في القضايا المتحدة الشكل والجوهر المختلفة الحكم والتعامل ما يدفع العالم بهذا نحو الهاوية، والدخول في معترك الخسارات الحياتية وضياع الأمم بتغذية هذا المنهج والطرح الذي لا يبقي جمالاً ولا حضارة ولا مبدأً.
فهو صورة من صور النفاق والتطفيف، وتأكيد على غياب الإنسانية، واستمرار لسياسات التمييز العنصري، ورفع رايات المصالح على ألوية القيم والمبادئ، والكراهية المبطنة والمعلنة حالياً على حساب العرق والمعتقد، في صور متعددة تحدث عنها الإسلام نبذاً وتحذيراً من أن تدخل حمى المسلم وفطرته وحياته، فنأى المسلم بنفسه عنها وألزم نفسه بعكسها، فجاء القرآن الكريم بآيات كثيرة ترسم أشكالاً من هذه الازدواجية في حركات الناس وأفعالهم، من ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42)، وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النساء: 141)، (وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ) (التوبة: 58)، (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين)، (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ) (النحل: 116)، وقد بين يوسف عليه السلام أن ازدواجية المعايير ظلم حتى في ميدان الترخص أو الحيلة؛ (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذاً لَّظَالِمُونَ) (يوسف: 79).
ثم جاء المنهج النبوي بمرتكزاته وتنبيهاته القولية والعملية التي يرد من خلالها على نخبة هذا المجتمع الدولي المدعي للإنسانية وحقوقها والمزيف بالعدالة واحترامها ليضعه في صورته الحقيقية وقزامته الفعلية، الذي لا يصلح لقيادة ولا ينفع لتسيير واتباع، بل أكد هذا المنهج النبوي حقيقة هؤلاء بوصفهم «شر الناس» كما عند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ».
ولذلك نرى أن ازدواجية المعايير التي جعلها المجتمع الدولي بأنظمته ودوله بجميع صورها قد لفظها المنهج النبوي بجميع صورها وتراكيبها ونفاها عن منهجه نظماً وعن أخلاق اتباعه رسماً من ذلك ما يلي:
– انقلاب الموازين ورؤية الحق باطلاً والعكس: فإنك ترى هذا بعين واضحة جلية لا رمد فيها ولا غبش في رؤيتها، فالحق وأهله (أصحاب الأرض والأصل والتاريخ) أصبحوا باطلاً وشذوذاً، والباطل وأهله (أصحاب الاحتلال والدخيل واليوم) أصبحوا أصحاب حقوق وتواجد، ولقد نبأنا نبينا ﷺ على هذا الزمن كما عند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ»، وأظنه هذا الزمان بحذافيره وما يمر علينا كل ساعة من طرح وأوامر وحمل دليل ذلك.
– إقامة القانون على حسب الضعف والقوة للأفراد والمجتمعات وليس على العدل والقيم: فأنت ترى أنه إذا قام المعتدي المحتل بشيء من القتل والقمع، فإن هذا المجتمع الدولي يخرج عن بكرة أبيه بازدواجية معاييره على كل وسيلة متاحة حاثاً جميع الأطراف -ومقصده حقيقة الطرف المسلم- بضبط النفس والتزام الهدوء وعدم الرد وتجاوز الخطب والتصبر والتعقل، وما يسير في هذه الأجواء من كل شيء يخدم الظالم في غيه ليظلم ويغنم، ويقهر المظلوم في حقه ليرضخ ويغرم، لكن المنهج النبوي لا يعرف إلا العدل والحق، وعلى أقرب الناس وأطهرهم، كما عند البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ ﷺ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ، حِبُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
– بناء المواقف على المنافع (سياسية، اقتصادية، اجتماعية..): فالحقيقة أن العين المفتوحة واللسان الطلق بزيف الحق لا يكونان إلا إذا كانت المصلحة والمنفعة لأصحاب هذا المجتمع الدولي ويصب الأمر في مكاسبهم، وإلا «فصم بكم عمي»، لا تسمع لهم ركزاً، ولا ترى لهم وجوداً، وكما جاء في قصة مهاجري الحبشة لما دفع رسلا قريش الرشوة لبطارقة النجاشي ليدفعوه إلى إعادة المهاجرة وإخراجهم من أرضه، بل أن يحولوا بينه وبين الاستماع لهم ولقضيتهم، فبعد أن تكلما جاء دور أصحاب المنافع بزيف الحقيقة وكبر الباطل، كما عن أحمد من حديث أم سلمة؛ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ.
– التلون في المعاملة على حساب الوضع المجتمعي والعرقي والمعتقدي: فأصل هذه الازدواجية مبنية على هذا الأمر ما هو وضعك وما هو عرقك وما هو معتقد؟! ولقد سمعت أحدهم عندما حدث الغزو الروسي الأوكراني في إحدى المحطات الأوروبية وأحسب أنه في أكثر من دولة يقولون: هؤلاء ليسوا عرباً، وأوكرانيا ليست العراق ولا فلسطين، بل زاد أحدهم فقال: هؤلاء أصحاب عيون زرقاء وشعور شقراء، وما قالوه هو واقع وحقيقي في التلون والاختلاف في المعاملة بين الأفراد والشعوب في النكبات والملمات، ولكن في منهجنا النبوي لا وجود لهذا، فما بلال ولا سلمان ولا صهيب ولا أم أيمن ولا غيرهم من أهل الجناب النبوي والحظوة القيادة إلا نفي لهذا التلون وتحقيق لقيم المساواة والكفاءة، فعند البخاري: عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟»، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ، قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟»، قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا».
– رؤية الأشياء على غير حقيقتها وتسمية الأشياء بعكس مسمياتها: فالظالم مظلوم، والمعتدي معتَدٍ عليه، والإرهاب دفاع عن النفس، والدفاع عن النفس إرهاب، والأرض المغصوبة تاريخ، والأرض التاريخية مغصوبة، وهكذا، ويذكرني هذا بحدثين؛ الأول في رؤية الأشياء على غير حقيقتها كما في حديث حذيفة في حديث الأمانة: «فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»، وتسمية الأشياء بغير اسمها بحديث أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا».
وفي النهاية هناك صور مهمة يفرضها الواقع والمجتمع الدولي من ازدواجية المعايير:
– عندما ترى حقوق الإنسان بعين واحدة وفي مواطن بعينها فهذا من الازدواجية.
– عندما تبيح الانتقام لنفسك فقط واسترجاع الحق من وجهة نظرك أو لصديقك، ولا ترى غيرك حقاً له هذا إن أضير به أو ظلم فهذا من الازدواجية.
– عندما تلعب بالمسميات تغييراً أو إلصاقاً فتصف من تريد بما تريد فهذا منه.
– عندما ترى نفس الحدث والموقف في بلدين أو بين فردين فتختلف زوايا حكمك فترى هنا المظلوم ظالماً، وترى هناك المظلوم مظلوماً، فهذا منه (غزة – أوكرانيا).
– عندما تنام وتستغرق في نوم عميق على شعب بأكمله محاصر لا يتمتع بأدنى حياة وتقيم الدنيا ولا تقعدها على حصار فرد في مطار أو محتجز في سجن فهذا منه.
– عندما تعطي كل الحقوق الإنسانية لقوم (كحق الحياة، الحرية، المساواة، البناء، العدالة، الحماية..)، ولا تعطي من ذلك شيئاً لأحد فهذا منه.
– عندما تميز بين دور العبادة فتقبل تدمير هذا ولا تقبل في آخر فهذا منه.