أظن أنه قد ثبت الآن بعد عملية «طوفان الأقصى» وبما لا يدع مجالاً للشك أن الغرب ما زال ينظر للشرق نفس النظرة القديمة، التي أوحت له بكل مواقفه القديمة من هذا الشرق وحضارته، وما يمثله من قيم وآداب وثقافة وأفكار، ولن يحتاج الأمر بعد الآن إلى جدل مطاطي حول قصة هذا الصراع التاريخي الممتد والموصول بأصوله القديمة وصلاً متيناً.
وها قد رأينا موقفه من الأحداث، واجتماعه على كلمة واحدة تنذر وتهدد وتتصايح: «إن إسرائيل في خطر»! ولا بد من الاستنفار التام الرسمي والشعبي لدفع هذا الخطر؛ حاملات طائرات تقترب من السواحل برسائلها الصامتة، سلاح وعتاد من كل مستوى ونوع، حشد إعلامي مكثف لترسيخ فكرة ونفي فكرة أخرى، ولا يهم هنا معايير الصدق والحقيقة ولا معايير العمل ومهنيته، ولا أي معايير!
اختصرها لهم وزير الدفاع «الإسرائيلي» وقال بملء صدغيه: «نحن نحارب حيوانات بشرية»! هكذا، رغم أن العالم كله شرقه وغربه وحتى يوم الناس هذا يضرب كفاً بكف حائراً متسائلاً: كيف ذهب الخيال بدرة الأدب والفكر الإنجليزي شكسبير (ت 1616م) ليجعل من شخصية «شايلوك» في مسرحية «تاجر البندقية» على كل هذه الحيوانية وكل هذا البغض والكراهية، فيطلب كيلو من لحم آدمي وفاء لدين اقترضه منه «أنطونيو» المسيحي النبيل، وأن يكون هذا اللحم من جسد «أنطونيو» نفسه؟!
ستذهب عبارة «الجنرال المسعور» مع قمامة التصريحات المشابهة لتصريحه، وسيبقى «شايلوك» دليلاً تاريخياً دامغاً ودائماً على حيوانية التفكير وحيوانية السلوك.
سنتذكر دائماً أن آخر شيء كان يحتاجه اليهود عبر تاريخهم الطويل، في قرون أزمانهم السحيقة، هي تجمعهم في «وطن قومي» لهم.
تقول الحكاية التي صنعت أسطورة، والأسطورة التي نسجت حكاية: إن «أوديب» في كل خطوة كان يخطوها ليهرب من قدره ومصيره، كانت تلك الخطوة تسير به رغماً عنه إلى قدره ومصيره! وأوديب هو بطل الأسطورة الإغريقية الشهيرة عن سعى الإنسان لقدره بقدميه وإن كان هارباً منه.
لا أدري هل هي نهاية البداية أم بداية النهاية؟! هذا ما قاله يوفال ديسكين، رئيس جهاز «الشاباك» السابق في مقالة له بصحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، في فبراير 2021م، وأضاف: «إسرائيل» لن تبقى للجيل القادم، فهي لا تتمتع بالتماسك الاجتماعي، والمرونة الاقتصادية، والقوة العسكرية والأمنية التي سيضمن وجودها الجيل القادم.
أحدثكم عن الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، التي تغير بالفعل جوهر «إسرائيل»، وتستطيع أن تعرض وجودها للخطر خلال جيل واحد، حيث يزداد الانقسام بين «الإسرائيليين» عمقاً، وأصبح الانقسام بين اليمين واليسار مهيمناً أكثر بكثير من الخلاف بين اليهود والعرب، كما أن انعدام الثقة في أنظمة الحكم آخذ في الازدياد، والفساد ينتشر في الحكومة، والتضامن الاجتماعي ضعيف.
وحمل بشدة على الأصوليون اليهود (الحريديم)، ووصفهم بأنهم «باتوا عبئاً علينا»، وأن منهم من أصبحوا منتشرين في الاتجاهات المعادية للصهيونية، وبالنسبة لهم فإن «إسرائيل» في طريقها للخسارة!
هكذا تحدث رئيس جهاز «الشاباك» في الفترة من عام 2005 إلى 2011م والمولود عام 1956م.
ويعد ديكسين من أهم وأعمق الشخصيات الأمنية والسياسية في «إسرائيل»، وهو صاحب رسالتي ماجستير؛ في العلوم السياسية والإدارة، والأخرى في تاريخ بني إسرائيل، ويتقن العربية الفصحى تماماً.
سنزداد من الشعر بيتاً ونذكر أيضاً ما قاله كارمي جيلون (72 عاماً)، رئيس جهاز «الشاباك» (في الفترة من عام 1995 – 1996م): إن استمرار السياسات المتطرفة ضد المسجد الأقصى، ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي، وستقود إلى خراب «إسرائيل»!
جيلون كتب سيرته الذاتية عام 2017م بعنوان «المواطن ك»، وهي شديدة الأهمية ومترجمة على كثير من المواقع، وستذهل من كم الفساد والعفن المنتشر لدى القيادات والأحزاب والنخب «الإسرائيلية»!
لكن الموقف الإقليمي في تفاعله مع عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من أحداث لم يكن على مستوى الحدث نفسه بكل أسف.
فما رأيناه ورآه العالم كله يوم 7 أكتوبر لم يكن مغامرة جامحة في فضاء المجهول، لقد كان تعاملاً مدروساً مع الواقع، بما تفرضه طبيعة هذا الواقع، وهذه هي طبيعة الأشياء بمنطق الأشياء.
ليس فقط لما يعانيه أهلنا في غزة من حصار ليس له مثيل في التاريخ، وليس فقط لما حدث في المسجد الأقصى مؤخراً وما يحدث طوال الوقت، وليس فقط للامتهان اليومي لمدن وبلدات الضفة الغربية وأهلها.
ما حدث يتعلق بالفهم الصحيح للصراع، في الوقت الصحيح لواقع وإحداثيات هذا الصراع، وهو ما ستؤكده لنا تطورات الأحداث إن شاء الله في الأيام القادمة.
وسأختم هنا بمقولة للعالم الجليل المستشار طارق البشري رحمه الله (ت 2021م) عن هذا الصراع، وبما يزيدنا في المعنى فهماً واقتراباً: نحن لا نتنازع مع العدوان «الإسرائيلي»/ الغربي حول أرض غريبة، يطمع فيها كلانا بمعنى أننا لسنا طرفاً في صراع بين متنازعين، ولكننا نحن موضوع الصراع ذاته.
نحن موضوعه وأحد طرفيه في ذات الوقت، وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهي مزية لا ينفد معينها وما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم إلا برد الاعتداء.
ويضيف: لا مهرب من استخدام العنف عند مواجهة استعمار استيطاني، قائم على كسب الأمر الواقع بالقوة، أو يتوسل لذلك بإبادة أصحاب الحق، وأصحاب الأمر الواقع القائم، بالطرد أو بالقتل.