صمدت مدينة غزة أمام نوائب الزمان المتعاقبة، وقد تبدل اسمها بتبديل الأمم التي صارعتها، فأطلق الفرس اسم «هازاتو» عليها، أما العبرانيون فأسموها «غزة» بمعنى القوية، والكنعانيون أسموها «هزاني»، أما المصريون فأسموها «غازاتو»، وسماها العرب «غزة هاشم»؛ نسبة إلى هاشم بن عبد مناف جد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي مات فيها ودفن فيها أثناء عودته بتجارته إلى الحجاز.
وتاريخ مدينة غزة كما كل فلسطين تاريخ مجيد حفظته ووعته الأجيال المتلاحقة، وحافظت غزة على اسمها العربي حتى تاريخنا الحاضر، لتؤكد عروبتها رغم الاحتلالات المتتابعة التي مرت بالمدينة.
كانت مدينة غزة آخر عقبة أمام الإسكندر المقدوني في زحفه نحو مصر عقب معركة «أسوس»، وقد وقف الإسكندر أمام أسوارها القوية عاجزاً لمدة شهرين وجرح أثناء حصارها عام 330 ق.م، ولما احتلها أخذ قائد حاميتها العربي وربطه في عربات الخيل وأركضها حول السور حتى قتل، وعندما حاصرها المكابيون ذات يوم، هب لنجدتها الحارث الرابع ملك الأنباط ففر المكابيون ورفعوا الحصار عنها.
كانت قاعدة لعمرو بن العاص قبل زحفه إلى مصر، وكانت غزة هي القاعدة التي ركنت إليها جيوش الأيوبيين، الملك الصالح إسماعيل، والناصر داود، وكان ركن الدين بيبرس يقود جيش السلطان الملك الصالح حيث دارت في تشرين الأول بينهم وبين جيوش الفرنجة معركة ضارية (1244م)، وكانت هذه المعركة أقسى كارثة حلت بالصليبيين عقب معركة «حطين» (584هـ/ 1187م) على أرض فلسطين، حتى سماها مؤرخو الفرنجة معركة «حطين الثانية»، وقدر عدد قتلاهم فيها بنحو ثلاثين ألفاً، وسيق ثمانمائة من أسراهم إلى مصر.
يقال: إن أهل غزة هم الذين خاف بنو إسرائيل بأسهم؛ (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) (المائدة: 22)، ولم يستطيعوا دخول الأرض المقدسة بعد ذلك إلا في هذا الزمن البائس، فروح الصمود والمقاومة في هذه المدينة قديم قدم التاريخ كما دلل على ذلك الدكتور السويسري هنريش ليغل، حيث كتب بحثاً بعنوان «روح المقاومة القديمة في غزة»، قال فيه: إن روح المقاومة ليست وليدة العصر الحالي في هذه المدينة، ولكنها سلسلة متداخلة الحلقات، فهذه المدينة تملك وثائق مكتوبة تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ومنها ما يبين ما قام به بوليبوس (120 ق.م)، وهو من ملوك سورية السلوقيين قام باجتياح مدينة غزة وأشاد بسكانها وتكاتف أهلها وروح الشجاعة التي يتحلون بها، وكيف أنهم قاوموا الغزو الفارسي وكيف وقفوا في وجه الإسكندر.
قبل أن يفتح المسلمون غزة كان العرب يكثرون من التردد عليها للتجارة، فقد نزلها أمية بن الصلت الثقفي، وتوفي بها هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم، وما زال قبره فيها إلى الآن ونسبت إليه «غزة هاشم».
كما أن والد النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عبدالمطلب كان قد نزل غزة للتجارة، ولما عاد منها إلى الحجاز مرض في طريقه إلى المدينة المنورة فمات بها.
ولما وصل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإمبراطور هرقل يدعوه فيه إلى الإسلام نادى الإمبراطور صاحب شرطته وأمره أن يبحث له في سورية عن حجازي من قوم محمد، فوجد صاحب الشرطة أبا سفيان بن حرب ونفراً من تجار قريش في غزة أتوا للتجارة فأخذهم منها وأرسلهم إلى هرقل في القدس، وقصة الحديث الذي جرى بينهم وبين هرقل مشهورة في صحيح البخاري.
الموقع الجغرافي وأهميته الإستراتيجية
قطاع غزّة هو المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، وهي على شكل شريط ضيق شمال شرق شبه جزيرة سيناء، ويمتد القطاع على مساحة 360 كم مربع تقريباً، طوله 41 كم، أما عرضه فيتراوح بين 6 و12 كم، تحد قطاع غزة الأراضي الفلسطينية المحتلة شمالاً وشرقاً، بينما تحدها مصر من الجنوب الغربي.
واكتسب موقع مدينة غزة الجغرافي أهمية خاصة، حيث إنه واقع على أبرز الطرق التجارية بالعالم القديم، تلك التي بدأت من حضرموت واليمن وانتهت في بلاد الهند.
كما أن لغزة أهمية عسكرية كبيرة، نظراً لكونها صلة الوصل بين مصر والشام، وكان الاستيلاء على غزة يعني بداية السيطرة على طرق الحرب والتجارة بين آسيا وأفريقيا، وكان لموقع غزة المتميز على حافة الأراضي الخصبة العذبة المياه التي تأتي مباشرة بعد برية سيناء الأثر في وجودها وبقائها وأهميتها، فهي المحطة الطبيعية لكل من الآتين من مصر، ووجهتهم إلى بر الشام، كما أنها المحطة الأخيرة لكل قادم من الشام ووجهته مصر، فهي ملتقى القوافل قبل دخول البادية، فيها يستكملون ما يلزمهم قبل المرور بالصحراء أثناء طريقهم إلى مصر.
طبوغرافية غزة
يمثل قطاع غزة الأجزاء الجنوبية من السهل الساحلي، ولا يوجد أي مظهر طبوغرافي خاص للقطاع، إلا أنه يمكن تمييز أقسامه الجنوبية والشمالية والشرقية عن الغربية، يتميز سطحه بالاستواء بشكل عام، وهناك سلسلة من التلال تمتد في الجزء الشرقي وترتفع عن المستوى العام للسطح، تقطع قطاع غزة ثلاثة أودية، هي: وادي غزة، ووادي السلقا، ووادي بيت حانون.
غزة في ظل الحكم العثماني
بعد هزيمة المماليك أمام العثمانيين في معركة مرج دابق شمال حلب في العام 922هـ/ 1516م، سقطت المدن الشامية واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر من قِبل الحاميات المملوكية، ثم دخلوا إلى فلسطين فسحقوا بقايا الفلول المملوكية في معركة «جلجولية» قرب الرملة، فسقطت كامل المدن الفلسطينية في يد العثمانيين، حيث دخل السلطان العثماني «سليم شاه» إلى بيت المقدس في يوم الثلاثاء 6 ذي الحجة 922هـ/ 30 ديسمبر 1516م.
هذا، وقد شهدت فلسطين ازدهاراً في فترة الحكم العثماني، حيث شهدت تطوراً ملحوظاً في كافة مناحي الحياة، فحرص السلاطين العثمانيون على إعادة إحياء المدن الفلسطينية وعلى رأسهم القدس، فقاموا بإنشاء الطرق الواسعة، وعملوا على ربط المدن الفلسطينية ببعضها من خلال مد خطوط السكك الحديدية، حيث تم مد أول خط سكة حديد يربط مدينتي القدس ويافا عام 1892م.
وفوق ذلك حرص العثمانيون على مد خطوط التلغراف مع الدول العربية المجاورة والمدن الأوروبية، كما زودت المدن الفلسطينية بالكهرباء، وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520 – 1566م) تم إنشاء مشروع التكية العثمانية (تكية خاصكي سلطان) التي آوت طلاب العلم وحرصت على تقديم وجبات الطعام لفقراء مدينة القدس التي استمرت في تقديم خدماتها حتى يومنا هذا.
وقد أدركت الدولة العثمانية مبكراً خطورة الأوضاع والمؤامرات التي تحيق بفلسطين، وأصبح ذلك جلياً بعد عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال السويسرية سنة 1897م، لذا وقف العثمانيون حائط صد أمام الهجرات اليهودية إلى القدس، ولم يقبل السلطان عبدالحميد الثاني أخر السلاطين العثمانيين (1876 – 1909م) إغراءات مالية ضخمة من قِبل زعيم الحركة الصهيونية تيودور هرتزل ببيع فلسطين مع جعلها تحت السيادة العثمانية، في وقت كانت الدولة في أمس الحاجة إلى الأموال لسد الديون، وتعثر الاقتصاد، وتآمر الأعداء.