الدموع عطرٌ حلال، تبدِّلُ أحوالنا من الشَّقاء إلى الشِّفاء، ومن الألم إلى الأمل، وهذه قطراتٌ من دموعٍ انهمرت من عين العين، أسأل الله أن يفتح لها القلوب والآذان.
إنها دموعٌ تفتِّتُ القلوب وتقرِّح الأكباد، تذكرنا بتلك المآسي التي يعانيها إخوانٌ لنا من بني جلدتنا بين الهدئة والسكون، واليقظة والمنام.
لقد رأى الكثير منَّا تلك الصور المفزعة من صور الحقد والغدر والخيانة من إفرازات الأفعى اليهودية في تلكم الأرض المباركة الطيبة.
دموعٌ تذكرنا بذلكم الطفل الذي ظهر على شاشات التلفزة مدرجاً بدمائه، وتلك الثكلى التي تصرخ عالياً على أهلها وذويها.
دموعٌ تذكرنا ببيتٍ مدمرٍ ومسجدٍ مخربٍ، وخيانة وغدر قلَّما شهد التاريخ مثلها.
دموع تكتب في قلوبنا وتنقش في صدورنا؛ ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (التغابن: 11).
أفاعي العداوة وعقارب الأضغان
إنها دموعٌ تدعونا إلى البصر بحقيقة الصراع الذي يدور بيننا وبين الكيان الصهيوني، وهذه الشوكة التي زرعتها أصابع الغدر في قلب العالم الإسلامي.
إنها دموعٌ تدعونا إلى مجموعة من الأسئلة نطرحها على العقل الإسلامي والضمير الإنساني، لماذا هذا السُّعار المحموم على هذه البقعة المباركة؟ ولماذا على غزة خصوصاً؟ ولماذا هذا الوابل المنهمر من القتل والتشريد والدمار بين الحين والآخر؟!
إنَّ الأمر ليس مجرد مسجدٍ وحسب يمكن أن نستعيض عنه بمسجد آخر كما يزعم البعض.. كلَّا.. إنها معركةٌ بين الحق والباطل، بين العقيدة والكفر، معركةٌ يُراد منها استئصال شَأْفة أمَّتِنا وعدم ترك المجال لها للنهوض والتقدم وقيادة دفة العالم نحو بارئ الأكوان، معركةٌ يُراد منها التحكم في مقَدَّراتنا وأرزاقنا وطريقة حياتنا، معركةٌ دينية، حضارية، واقتصادية.
إنَّ غزَّةَ الأبيّة -زادها الله عزاً ومجداً- خرَّجَت في الآونة الأخيرة أكثر من ثلاثة آلاف حافظ لكتاب الله تعالى؛ لذا كان معظم الشهداء من الأطفال والنساء، بل إن الغريب أن المساجد لم تسلم من هذا العدوان السافر فتم هدم عددٍ كبيرٍ من المساجد والمدارس والمستشفيات
إنها حربٌ تستهدف العقيدة أولاً ثمَّ القضاء على الجيل ثانياً في جو من الصمت العالمي العجيب والمريب، وهي حربٌ متكررة في شتى بلاد المسلمين.
بين الشقاق والوفاق
إنها دموعٌ تدعونا إلى طرح الخلاف ونبذ الاختلاف، وإلى الاجتماع والتمثل في الجسد الواحد الذي ذكره نبينا ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(1).
إنها دموعٌ تدعونا إلى قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «الْزَمُوا هَذِهِ الطَّاعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، فَإِنَّهُ حَبْلُ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ، والخلاف شرٌ كلُّهُ»(2).
قال رسول الله ﷺ: «إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنْزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنَةٍ بعامةٍ، وأن لا يُسَلِّطَ عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ؛ وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أُسَلِّطَ عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها، حتى يكون بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا ويَسْبِي بعضُهم بعضًا»(3).
ألا وإن من أوجب الواجبات بعد الإيمان بالله تعالى العمل على سد فجوة الاختلاف وردم منابع الشقاق بين دعاة الإسلام وفصائله المختلفة، فإن نار الاختلاف تشبه الصحراء إذا تسعَّرت شمسها وحميت رمالها، فإنها لا تعرف حينئذٍ ربيعاً ولا خريفاً، ونار الاختلاف تلتهم الأخضر واليابس وتفتح الباب لفحيح الأفاعي وعواء الذئاب، فيا ترى هل من مدَّكِر؟
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون
إنها دموع تكتُب على أطلال غزة، ترددُ قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (النور: 11)، وترتِّلُ قوله تعالى في شأن العزَّة ونبذ المذلة: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
إن الله تعالى قد يبتلي الأمة بالنكبات والمصائب حتى تتميز الصفوف وحتى يعلم المؤمن من المنافق، وحتى تظهر معالم الإيمان واليقين في المجتمع المسلم، حينئذ لن يكون لدعاة الاستسلام والإمهال وأرباب الانهزام النفسي من العملاء مكان، فشتَّان بين النائحة الثكلى والمستأجَرة.
إنها دموع تدعونا جميعاً أن لا يأس، أن لا خور، أن لا خنوع، وأنه مهما طال حبل الظلام فإنَّ بعد كل ليلٍ فجر، ووراء كل طلقٍ مولود.
«إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب، ويخَيِّل إلى الكثيرين أنه غالب، وأنه جارف، وأنه محيق، وما هو إلا أن يواجه الحق الواثق الهادئ حتى ينفثئ كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور»(4).
وهذا موعود الله تعالى من خلال آيات القرآن الكريم أن النصر للإسلام، فإن الله تعالى يُخرج من بطن الخوف الأمن: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7)، ويخرج من بطن الصخر الماء: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ (البقرة: 60)، كما يخرج النجاة من بطن التهلكة: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)، والفرج من رحم الشدة: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الشرح: 6).
صوت من الماضي
هذا صوتٌ من الماضي، ونداءٌ دوي في فم الزمان، أرسله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ليربط به على قلوب الصابرين والصامدين في كل عصر ومصر، فلقد شاهد المجتمع المسلم في عهده غزواً غاشماً في بداية تاريخه من قِبل التتار، لا يُعلم في التاريخ مثله، قُتل في منطقة واحدة في مدينة إسلاميةٍ واحدة أكثر من مليون مسلم، بل وسالت الدماء حتى خرجت من الميازيب، بل كانت امرأة من التتار تأتي وتستوقف ثلاثة أو أربعة أو سبعة من المسلمين
حتى تستل سيفها وتذبحهم عن بكرة أبيهم، وأصاب الأمة من الهم والغم والكرب ما لا يُطاق، لكنَّ الأمة لم تيأس لأنها كانت محروسة بحفظ الله ومكلوءة بعينه، وإن مرضت أو سقمت فإن لله كتب لها ألَّا تموت.
ويتقدم جيش التتار بعد أن أهلك شرق البلاد إلى غربها ويذهب إلى الشام، فيخرج أحد أعلام العلماء وأحد الشيوخ الكبار (ابن تيمية رحمه الله) ودعا الأمراء والسلاطين وحث الأمة على قتال التتار، وفي لحظاتٍ من الحزم والقوة والشجاعة والبطولة وعدم اليأس، نصر الله جنده وأعز أمته، ورجعت فلول التتار مهزومين منكوبين يقتلهم المسلمون، وكان يقول شيخ الإسلام فيما رُويَ عنه: «والله إن الله لينصرنا»، فيقولون له: قل إن شاء الله، فيقول: «إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً»(5)، وهذا كلام لا نستطيع أن نرقى إلى سمائه إذا وصفناه كلاماً ورصفناه ألفاظاً، ولكن إذا جعلناه حقائق ومعاني، فهل بعد هذا يقين؟ وهل يتحقق المشروط إلا بشرطه؟
إن الله تعالى ضمن لهذه الأمة العلو إذا حققت شرطه من الإيمان بالله منهجاً وسلوكاً وقولاً وعملاً، هما يأتي موعود الله بالنصر والتمكين.
أنفاس الفجر الباردة
إنها دموع تدعونا إلى أن نضرع إلى الله تعالى وأن نتوجه إليه وأن نخشع بين يديه أن ينصر الله إخواننا، فإن الدعاء بلسم الجروح، وايم الله إنه ليفعل ما لا تفعله الجيوش الجرارة خاصة مع نسيم السَحَر والناس نيام، فربما صعدت إلى الله دعوة صادقة غفل الناس عنها ولم يغفل الواحد الديان عنها، هذا وإن من محاسن التشريع الإسلامي أن شُرع دعاء القنوت خاصةً وقت النوازل والملمَّات، فقد دعا النبي ﷺ على عُضل والقارَّة ورعل وذكوان أربعين صباحاً حتى استجاب الله دعاءه.
وأخيراً: فهذه لوازم متطلبات الجسد الواحد:
أولاً: ضرورة إعمار النفوس قبل الأرض، فأقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقُم على أرضكم.
ثانياً: مد يد العون والمساعدة إلى إخواننا في فلسطين وغزة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
ثالثاً: التذكير بالقضية في المحافل والمنتديات بين الأسر والجماعات ومعرفة عدونا وطبيعة الصراع معه -خاصة لأبنائنا وشبابنا- فعليهم نعقد العزم ونشد الخطو، وبين البدء والختام أرى بوارق الأمل وبشريات النصر تمخر عباب الزمان لتستقر في مهبط أرض الأنبياء.
_______________________________
(1) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، (8/ 10) برقم: (6011).
(2) كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، الجزء السادس، ص 13.
(3) رواه مسلم.
(4) الظلال (3/ 1350).
(5) مدارج السالكين، ج2، ص 4.