يتحدث الاحتلال عن أنه سيرُد بـ«اجتياح كامل»، و«عملية برية كاسحة»، وبأنه جند 300 ألف من الاحتياط، ثم رفع العدد إلى 370 ألفاً، ثم أعطى إنذاراً بالتنفيذ خلال 24 ساعة لكنه عاد وأجّله، واليوم فور أن تلبدت السماء بالغيوم أعلن تأجيلها لعدة أيام لعدم مؤاتاة الأحوال الجوية، وكأنه كان ينتظر سبباً للتأجيل.
لا يمكن أن نستبعد أن صناعة مناخ من الحيرة حول العملية البرية وحجمها وموعدها يخدم في التضليل والخداع بحثاً عن قدر من المفاجأة؛ إلا أن العنصر الأهم والأبرز يكمن في كون العملية البرية مأزقاً يهرب منه الاحتلال، فهي آخر الخيارات العسكرية على قائمته ضمن عقدة آخذة بالتكرس منذ اجتياح جنين عام 2002م، ثم مجزرة الدبابات في وادي الحجير في عام 2006م، ومعركة الشجاعية في عام 2014م؛ فقد تركت هذه المعارك الثلاث جراحاً غائرة في وعي الجندية الصهيونية الآخذة بالتآكل، التي يتراجع فيها منسوب الإرادة والتضحية بشكل مستمر عبر عقود من الزمن.
المعركة الحالية حرب غير متناظرة، بين قوة نظامية حديثة وقوة مقاومة غير تقليدية، ووفق نظريات هذا الشكل من الحروب التي طُورت في فيتنام ولبنان وفلسطين وأفغانستان، فإن النظرية الغربية في هذه الحرب مبنية على جوهر أساسي هو استثمار فارق الإمكانات لصالح الجيش النظامي عبر 5 ركائز:
الأولى: التفوق الاستخباري، مستفيداً من الرقابة على الاتصالات والتحركات، وهذا ما يشكل الصهاينة رأس حربته العالمية عبر شركة «أن أس أو»، وبرنامج الاختراق «بيجاسوس»، إضافة إلى المُسيّرات.
الثانية: بناء استحكامات دفاعية معقدة من الأسيجة والكهرباء والكاميرات والمجسات والأبراج وحقول الألغام، وهذا ما وظفه الكيان الصهيوني في «عائق غزة الذكي» الذي قدمه عند افتتاحه في عام 2021م على أنه أحدث ما يمكن للتكنولوجيا الدفاعية أن تتوصل إليه.
الثالثة: توظيف التكنولوجيا الهجومية من خلال أدوات التوجيه والرصد بحيث تضرب مفاصل القيادة والتحكم عند المقاتلين غير النظاميين.
الرابعة: المبادرة المستمرة لاستنزاف الطرف الأضعف لمنعه من المراكمة، وذلك من خلال تكتيك «جز العشب» الذي يبادر له الصهاينة بجولات تصعيد كل عدة أشهر.
وأخيراً بإعداد الجنود لخوض حرب العصابات من خلال محاكاة الواقع وإضفاء مرونة على التشكيلات العسكرية مع زيادة قدرة مختلف الأذرع المقاتلة على التكامل الميداني، وهذه الركائز الخمس كانت قلب خطة «تنوفا» لتحديث الجيش الصهيوني منذ عام 2019م، وقد تُوجت وفق تصريحات قادته في مناورة «عربات النار» صيف 2022م.
معضلة الصهاينة الكبرى أن هجوم المقاومة المباغت في «طوفان الأقصى» حيد العناصر الخمسة لنظريتها العسكرية، إذ حقق المفاجأة الاستخبارية ووظف التكنولوجيا والتخطيط الدقيق لتفكيك العائق وتمكن من العبور المباغت والانقضاض على الجنود في ثكناتهم وصولاً إلى إنهاء فرقة غزة عملياتياً خلال 4 ساعات؛ وهو ما يجعل الجيش الصهيوني في مأزقين؛ الأول: أنه بات بلا نظرية حرب فعالة، والثانية: أن رأس حربته الخبيرة بالإقليم قد انهارت، وقد بات عليه أن يخوض عملية برية في غزة من دون فرقة غزة.
هذا المأزق الصعب يضع القيادة الصهيونية أمام 4 خيارات نظرية:
الأول: أن تكون قد حضّرت قوة خاصة بديلة لهذه اللحظة، تكون صغيرة العدد فائقة التدريب وخبيرة بالأرض بحيث تتمكن من فرض اختراق فوري مضاد لموازنة المشهد، ومجريات المعركة تقول: إن هذا الخيار ليس موجوداً.
الثاني: أن تتمكن عبر التفوق الاستخباري والذخيرة الدقيقة من الوصول إلى أهداف مؤثرة في منظومة قيادة المقاومة بما يمنعها من مواصلة الحرب، أو على الأقل يحد من كفاءتها؛ ومجريات الحرب حتى الآن تَشي بوجود معضلة في هذا الاتجاه.
الثالث: الذهاب إلى الضغط على القاعدة المدنية بالقتل العشوائي وإلحاق أكبر ضرر ممكن وشل كل مناحي الحياة، والتركيز على الحصار والطيران، وهو ما اختاره الصهاينة؛ لكن تاريخ الحرب يقول: إنه لم يسبق لجيش أن انتصر بهذه الطريقة؛ لأنه في النهاية لا بد أن يسيطر على الإقليم وهذا لا يتم من الجو.
الرابع: الذهاب بعد القصف الشديد لعملية برية قائمة على الحجم والزخم، على صف أرتال الدبابات والحديد لتكتسح ما أمامها وتفرض الاقتحام، مع تحمل الثمن المتوقع لغاية التمكن من الاختراق، والواضح أن هذا الخيار هو ما تدفع باتجاهه الولايات المتحدة، وهو ما يفرضه ضغط الهزيمة المذلة في بداية المعركة، وهو ما يمكن أن يستعيد جزءاً من الردع الذي قوضته ضربة «طوفان الأقصى» يوم 7/ 10/ 2023م، المعضلة أمام هذا الخيار أن التجربة القريبة تقول: إن 300 مقاتل قد تمكنوا من احتلال كامل مواقع فرقة غزة المؤلفة من 12 ألف جندي خلال 4 ساعات، فهل الذهاب لملاقاتهم يمكن أن يشكل مخرجاً أم أنه يُعقد المشهد؟
لا شك أن الولايات المتحدة اليوم شريكة في دراسة هذه الخيارات، إن لم يكن جنرالاتها هم من يقودونها بالفعل أمام ما لمسوه من اهتزاز وفقدان للتوازن سياسياً وعسكرياً لدى الصهاينة، فلحظة المبادرة كانت عبقرية واستفادت من الشرخ الداخلي الصهيوني وهو طري، وقبل أن يتمكن النظام من التكيف معه؛ لكن أمريكا أيضاً محكومة بالوضع ذاته.
في الحقيقة، ما نشهده اليوم إفلاس لكل النظرية الغربية في الحرب غير المتناظرة، فهي تبني على فارق الموارد والأدوات لكي تقفز عن أزمة جوهرية هي أن الحرب في أصلها صراع إرادات، وأن إرادة صاحب الحق أقوى من إرادة العدوان، فالقوى غير النظامية ترتكز على مجتمعات ترى فيها حياتها ومستقبلها وهويتها ووجودها، بينما قوة العدوان تستند إلى الفائض، فائض المال والتكنولوجيا والعدد، وهذا ما يفسر كيف تتمكن غزة الفقيرة المحاصرة من إنتاج قوة عسكرية توقع الهزيمة بأحد أحدث الجيوش الغربية الممول بكل أشكال الدعم والتكنولوجيا، فمجتمع غزة يمكن أن يوجه كل ما يستطيع من مال ونخبة وإرادة وجغرافيا حتى يستعيد وجوده وحياته ومستقبله، الإرادة المستندة إلى الحق هي العنصر غير المحسوب في النظرية الغربية، ولذلك نراها فشلت في فيتنام ولبنان، وها هي تذهب إلى الإفلاس في فلسطين.
يدرك الغرب جوهر فشل نظريته، ولذلك يذهب نحو طرح نظرية التهجير أو الإبادة، فهو يعترف بطرحه هذا الخيار أن غزة لا حل لها إلا أن تُباد، وأنها ما دامت موجودة كشعب على أرضه فإنها ستكون قادرة على هزيمته مرة بعد مرة؛ إن التهجير لا يطرح اليوم لأن الكيان الصهيوني قادر عليه ومستعد له وباحث عن ابتلاع غزة التي سبق له أن لفظها وعجز عن ابتلاعها؛ بل هو التجلي الأكبر للأزمة، وللإقرار الصهيوني والغربي الضمني أن غزة لا حل لها، وأنها ستبقى قادرة على فرض الهزيمة ما دامت موجودة، وكذلك كل جغرافيا فلسطينية أو عربية تتمكن من التعبير عن إرادتها بالمـقاومة.