عملية «طوفان الأقصى» لا تقل عظمة، بل تزيد في قوتها وحنكة تخطيطها وتدبيرها وتنفيذها عن هجوم «تيت» الفيتنامي، الذي مهد لهزيمة أمريكا في فيتنام، ومحمد الضيف ورفاقه الذين دبروا وخططوا ونفذوا، في ظل ظروف لم يعرف التاريخ مثيلاً لقسوتها، لا يقلون في عبقريتهم وذكائهم وحنكتهم عن هوشي منه ورفاقه، بل يزيدون.
حرب فيتنام
تعتبر حرب فيتنام واحدة من أشهر حروب التاريخ الحديث، وقد كانت حرباً بين فيتنام الشمالية، المدعومة من أكبر قوتين شيوعيتين، آنذاك، الصين والاتحاد السوفييتي، وفيتنام الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها.
كانت أسباب الصراع متجذرة بعمق في حقبة الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة تخشى انتشار الشيوعية وتتدخل بنشاط في محاولة لمنعها، وقد كان هجوم «تيت»، الذي وقع في أوائل عام 1968م لحظة محورية غيرت مسار الحرب إلى الأبد.
ما حدث في هجوم «تيت» الفيتنامي
كان هجوم «تيت» عبارة عن سلسلة منسقة من الهجمات التي شنها الجيش الفيتنامي الشمالي (NVA) وقوات الفيتكونج (VC) ضد القوات الفيتنامية الجنوبية والأمريكية، في 30 يناير 1968م، خلال عطلة رأس السنة الفيتنامية (Tet)، كان الهجوم مفاجئاً على المدن والبلدات الكبرى في جميع أنحاء جنوب فيتنام، بما في ذلك العاصمة سايجون.
كان هجوم «تيت» أكبر عملية عسكرية في حرب فيتنام، وقد فاجأ القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية، حيث تمكنت قوات الجيش الفيتنامي الشمالي وقوات الفيتكونج في البداية من الاستيلاء على العديد من المدن الكبرى، بما في ذلك هوي، ومع ذلك، قامت القوات الأمريكية والفيتنامية الجنوبية في نهاية المطاف بصد القوات المهاجمة، وانتهى هجوم «تيت» بهزيمة عسكرية للفيتناميين الشماليين والفيتكونج.
نتائج هجوم «تيت»
بالرغم من أن هجوم «تيت» لم يسفر عن انتصار عسكري لقوات فيتنام الشمالية، فإنه كانت له عواقب سياسية كبيرة، فقد تسبب في:
– زيادة كبيرة في الخسائر الأمريكية.
– تراجع الدعم الشعبي للحرب في الولايات المتحدة.
– أدى إلى استقالة وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا.
– عزز عزيمة الفيتناميين الشماليين على مواصلة القتال.
نقطة تحول
كان هجوم «تيت» نقطة تحول في حرب فيتنام؛ لأنه حطم الوهم بأن أمريكا لا تُقهر، وأجبرها على إعادة تقييم جدوى الحرب والغرض منها، وكشفت الفجوة الهائلة بين الواقع العسكري على الأرض والخطاب المتفائل القادم من واشنطن، كان هجوم «تيت» بمثابة تحول حاسم في الرأي العام دفع حكومة الولايات المتحدة نحو البحث عن تسوية تفاوضية لإنهاء الحرب.
بون شاسع بين «طوفان الأقصى» و«تيت»
في الحرب الفيتنامية كانت هناك دولة معترف بها منذ عام 1945م هي جمهورية فيتنام الديمقراطية، تحارب حرباً تراها شرعية لتوحيد البلاد.
كانت فيتنام الشمالية تستند إلى الحائط الصيني السوفييتي الصلب، الذي يحمي ظهرها، ويمدها بكل ما تحتاجه من أسلحة ومؤن، كل هذا علاوة على الدعم الإعلامي والدبلوماسي العالمي لها من الدول الشيوعية والطيف الاشتراكي السائد في العالم آنذاك.
في المقابل، كانت هناك فيتنام الجنوبية تستند إلى القوة الأمريكية الجبارة، فقد كان للأمريكيين قواعد عسكرية تستخدم كل ما تملك من تقنيات عسكرية وأسلحة، عدا السلاح النووي بالطبع، في معركتها التي كانت تعتبرها حرباً بالوكالة مع القوى الشيوعية آنذاك.
معجزة غزة
في مقارنة سريعة بين هجوم «طوفان الأقصى» الفلسطيني وهجوم «تيت» الفيتنامي، يتضح أن القوى بين طرفي الصراع في الحرب الفيتنامية كانا شبه متعادلين، حيث تتحارب دولتان معترف بهما، إحداهما من خلفها أمريكا وحلفاؤها، والأخرى مدعومة دعماً كاملاً من قوتين عظميين؛ الصين والاتحاد السوفييتي.
والمشبه لغزة المقاتلة الأبية بفيتنام الشمالية يظلم الحقائق ظلماً بيناً، فغزة محاصرة منذ أكثر من 15 عاماً، وفيتنام الشمالية لم تحاصر يوماً.
– غزة ممنوعة من السلاح والعتاد، عدا السلاح الخفيف المهرب بشق الأنفس، أو المصنَّع في الداخل بأقل الإمكانات، في حين كانت مخازن السلاح الروسية والصينية متاحة ومفتوحة للفيتناميين.
– غزة محصورة في مساحة ضيقة لا تسمح بالمناورة إلا في أضيق الحدود، بينما كانت فيتنام الشمالية تتمتع بمساحة تزيد على مساحة إنجلترا تسمح لها بالحركة والتخفي والمناورة والخداع الإستراتيجي.
– كانت فيتنام الشمالية محاطة بالأصدقاء من كل الجوانب، في الوقت الذي تحاصر فيه غزة من أشقائها، ويمنع عنها الغذاء والدواء.
– التخفي والمناورة في الأرض المكشوفة في غزة، ذات الجغرافيا الصحراوية، شبه مستحيلة أو في غاية الصعوبة، في مقابل التخفي السهل والمناورة المخفية في غابات فيتنام الكثيفة والكثيرة.
– غزة محاصرة إعلامياً ودبلوماسياً، ولا تتوقف حملات شيطنتها وشيطنة مجاهديها، في حين كانت فيتنام مدعومة إعلامياً، وخصوصاً من جماهير غفيرة من الإعلاميين اليساريين حتى في أمريكا نفسها.
إن ما قامت به غزة إعجاز عسكري في التخطيط والتدبير والتنفيذ والخداع الإستراتيجي والشجاعة منقطعة النظير ارتقى إلى قمة لا يطاولها إعجاز آخر.
سيسجل التاريخ أن القائد الظافر محمد الضيف، ومعه ثلة من الأبطال الميامين، قد صنع هو وجنوده الأفذاذ ملحمة لم نكن نحلم بها، فاجأ بها الصديق قبل العدو، في هذه الظروف الحالكة، ملحمة تتضاءل أمامها ملحمة هجوم «تيت» الفيتنامي، على قوتها وبسالتها.
للأمة العربية والإسلامية الآن الحق بأن تفخر بإنجاب قائد مثل محمد الضيف، كما افتخرت من قبل بأبطال مقاومين أفذاذ من أمثال عبدالكريم الخطابي، وعبدالقادر الجزائري، وعمر المختار، وسيثبت المستقبل أن عملية «طوفان الأقصى» ستأتي بنتائج ستتضاءل أمامها النتائج التي مهد لها هجوم «تيت».