لثلاث سنوات خيَّمَ على بيت الزوجين (أ، ن) صمتٌ عجيبٌ، قبل أن ينفصلا، بعد أن كانا لا يكفّان عن التفاعل والحوار، بل كان يُضرب بهما المثل في الحبِّ والتفاهم وغياب الخلافات عن حياتهما الزوجية، ولِمَ لا وقد ارتبطا عن قناعة بعدما تزاملا في الجامعة والعمل لسنوات، وقد جمعهما التكافؤ في كل شيء، ورضيا بأن يكونا شريكين؛ إذ كان من المؤكد –في نظرهما حينها- أنه لا يصلح أحدهما إلا للآخر.
بيتهما صار أشبه بالقبر في صمته ووحشته، صحيح لم يكن أحدُهما يقصِّر في خدمة الآخر وأداء دوره تجاه الأولاد، لكنهما كانا كغريبين بينهما مصلحة مادية عابرة.. حيث غابت المشاعر، واختفى الوُدُّ، وانقطعت الحميمية بالمرّة.
أعداد كبيرة من الأسر تُصاب بهذا الصمت الذي أصاب عائلة (أ، ن) ويُعرف باسم «الخرس الزوجي»، وقد تنوّعت أسبابه التي تؤدي في النهاية إلى أعراض سلبية تؤثر على الزوجين وتُلقي بظلالها الكئيبة على باقي أفراد العائلة، فيتحوّل الزواج إلى نقمة عكس ما أراده الله تعالى، فما شرع الله عز وجل الزواج للبشر وجعله سُنة الأنبياء والمرسلين إلا لصالحهم، ولعلمه -جل وعلا- أن فيه سعادتهم؛ فبه قضاء الوطر، وتحصين الفرج، وغض البصر، وحماية العرض، فضلًا عن فوائده النفسية والاجتماعية التي لا تحصى؛ (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
ما «الخرس الزوجي»؟
يُعَرَّف «الخرس الزوجي» بأنه: أزمة يعيشها الزوجان وتبعث على مشاعر اليأس؛ لفتور في العلاقة الزوجية يمنع من التواصل الإيجابي بينهما؛ حيث يغيب الحوار، وينشغل –أو يتشاغل- كلٌّ منهما عن الآخر. ويعتبره البعضُ نهاية غير رسمية للزواج، أو هو انفصال نفسي خال من مشاعر الحب والألفة، ويترتب عليه مشكلات صحية ونفسية واجتماعية، على الزوجين والأبناء.
أسبابه
تتعدد أسباب الصمت أو الخرس الزوجي حسب خبراء النفس والاجتماع واستشاريي الأسرة، منها:
– الحياة الرتيبة المملّة الخالية من التغيير الذي من شأنه تجديد العلاقة الزوجية.
– وجود مشكلة حقيقية يرفض أحد الطرفين الاعتراف بها وتمثل هدرًا لحق الطرف الآخر الذي لا يملك سوى الصمت تفاديًا لحدوث مشكلة أكبر قد تعصف بالعائلة.
– كثرة الخلافات المادية التي لا يُتوصل بعدها إلى حلول فتبقى العلاقة مشحونة بالقلق والتوتر وعدم الارتياح، وإن ظل كلٌّ منهما يؤدي دوره المادي تجاه الطرف الثاني والأبناء.
– ظهور تباين في طبيعة الزوجين بعد فترة من الزواج، ونشوء مستجدات في حياتهما كشفت هذا التباين الذي لم يكن ظاهرًا من قبل.
– أحدُ الزوجين يرهق الآخر بما لا يطيق؛ فيكون البعدُ عنه والصمتُ إزاءه هو النجاة تفاديًا للضغط النفسي الواقع عليه؛ ومنعًا من تسميم أجواء البيت.
– أسهم التطور التكنولوجيُّ في هذا الأمر بشكل كبير؛ حيث يهرب كل طرف مع جهازه أو محتواه على وسائل التواصل؛ فصار الخرسُ –من ثَمَّ- عادة لها ما بعدها.
آثاره على الأسرة
تؤثر حالة الصمت الزوجي المتواصل على كلا الزوجين، وتمتد إلى الأبناء؛ حيث يعاني الشريكان بعد فترة من الأمراض الناتجة عن الألم النفسي والوحدة مثل الضغط والسكر واضطرابات القولون العصبي، فضلًا عن التوتر والأرق، وقد يفتح هذا الخرس الباب أمام الانفصال النهائي بعد اليأس من تلك الزيجة غير الصحية.
وغالبًا ما تتسبب هذه الحالة من الخلاف الزوجي في القلق والاضطراب النفسي للأبناء، وربما أثر ذلك عليهم في بقية حياتهم وفي تعاملهم مستقبلًا مع شركائهم، أو قد يتسبب في عزوفهم عن الزواج من الأساس؛ لما عايشوه من نموذج لا يشجع على مشروع الزواج.
ومما يؤسف له أنه في كثير من الحالات يستخدم الأبناء، خصوصًا إن كانوا صغارًا، كسلاح نفسي من طرف ضد الطرف الآخر، بتنفيرهم منه، وتبغيضهم فيه، بالادّعاء عليه واتهامه بتهم ربما كان بريئًا منها، فيتفرّق شملُ الأبناء، وتدبّ الضغينة، على صغرهم، في نفوسهم، ويستقبل المجتمع أجيالًا مشوهة تهدم أكثر مما تبني.
علاجه
ينصح الخبراء والمختصون مَنْ وقعا في تلك الأزمة بتفادي أسبابها المذكورة، والتغلُّب على الملل والروتين ببعض الأنشطة وبشكل دوري؛ ثم بفتح المجال لحوار صريح بينهما تتوافر فيه النية الخيِّرة؛ من أجل وضع حلول للتغلب على هذا الخرس، على أن يراجع كل طرف واجباته قِبَل الطرف الآخر، وأن يراعي ما قد يمرّ به من ضغوطات وأعباء، وأن تكون الكلمة الطيبة هي رسول السلام في هذا الحوار، وأن يتذكرا ما كان بينهما من ذكريات سعيدة وعلاقة متوهجة، ومن المهم أن يتذكر كل منهما ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر» (أحمد ومسلم)، فمما لا شك فيه أن كل إنسان منّا مجبول على صفات طيبة رغم ما يبدو منه أحيانًا من سلوك مذموم، فالواجب أن يقدِّر تلك الأخلاق الطيبة، وأن يغضَّ الطرف عن الهفوات، ويتغافل عن الأخطاء ما لم تصطدم بحُرمة من حُرمات الله. فإذا فشلا في ذلك الحوار وجب استشارة الاختصاصيين والمفتين الدينيين؛ فإن لم يصلا لحلٍّ وجب تدخل أهل الطرفين، حكمٍ من أهله وحكمٍ من أهلها. فإذا ما استُنفدت الحلول جميعًا واستحالت العشرة بينهما شُرع الطلاق؛ لئلا تستمر تلك الزيجة المُضرّة بالأسرة والمجتمع.