هذا تقرير نشرته مجلة “المجتمع” في العدد: 1402 بتاريخ: 26/2/1421هـ – 30/5/2000م، يوضح أن الكيان الصهيوني ليس أمامه إلا الفرار عندما يجد مقاومة صادقة من أبناء البلد المحتل، وإننا نعيد نشر هذا التقرير لنؤكد للجميع أن الالتفاف حول المقاومة الفلسطينية في معركتها “طوفان الأقصى” هو السبيل الوحيد لتحرير المقدسات من دنس الصهيونية، وأننا على موعد مع مثل هذا اليوم الذي تفر فيه جحافل الصهيونية، (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا) (الإسراء:51).
يـوم الـذل
في مشهد نادر: الجيش الصهيوني يهرول منسحباً من جنوب لبنان
شارون للعملاء: اطأطئ رأسي وأخجل من النظر في وجوهكم
الحالة البائسة والمزرية التي بدت بها القوات “الإسرائيلية” وهي تنسحب من الجنوب اللبناني.. ربما لم تكن مفاجأة للطرف الصهيوني بقدر ما كانت مدهشة لأطراف أخرى خاصة تلك التي مازالت منخدعة بأسطورية القوة العسكرية “الإسرائيلية”، ودهاء السياسة الصهيونية، لكن ذلك انهار أمام أعينهم في ساعات قليلة ومتسارعة، وإذا كان أحد من المراقبين لم يساوره شك في جدية القرار “الإسرائيلي” بالانسحاب.
إلا أن الشك المصحوب بالمفاجأة كان في الآلية التي انسحب بها “الإسرائيليون” والتي جسدت حالة نادرة من حالات الفرار المرتبك والذليل حتى بدت القوات المنسحبة وكأنها خارجة من سجن طال حبسها داخله، وتخشى أن تُعاد إليه مرة أخرى، كما أن حركة تلك القوات المتسارعة بدت وكأنها تريد أن تنهي هذا المشهد الذليل بسرعة ولا تتوقف عنده طويلاً، هروباً من نفسها ومن العالم.. عبَّر عن ذلك أحد الجنود المنسحبين لراديو “إسرائيل” «مساء الثلاثاء الماضي قائلاً: في النهاية أنزلنا العلم على عجل ورددنا النشيد القومي حتى لا يراودنا شعور المنسحب وهو شعور ذليل».
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت أكثر حرقة في وصف المشهد وهي تخرج بعنوانها الرئيس «يوم الذل» قائلة: إن ذلك الانسحاب هو فخ آخر في قائمة طويلة من أفخاخ لبنان.
محاولات الساسة الصهاينة لم تفلح في الإمساك طويلاً باللوحة البراقة التي ظلوا يحاولون من خلالها أن يلقوا في روع العالم أن الانسحاب يأتي استجابة لقرار الأمم المتحدة رقم 425، أو أنه خطوة من قِبلهم وتنازل في سبيل تحقيق السلام.. وقد ثبت أن ذلك معدوم المصداقية وسقطت تلك اللوحة لتكشف عن انهيار.. عسكري ونفسي.. بل وتكشف عن تناقض وتضارب فيما يعلنه الساسة والعسكريون الصهاينة، ففي الوقت الذي كان فيه شاؤول موفاز رئيس أركان الجيش يعلن بطريقته المتغطرسة أنه لم يقرر بعد الموعد الدقيق لانسحاب قواته، كانت المقاومة قد سيطرت بالفعل على نصف مناطق الجنوب بعد أن فر منها الجنود الصهاينة.
وفي الوقت الذي كانت سلطات الاحتلال الصهيوني تمارس أسلوبها في الابتزاز والضغط، مستخدمة أسرى معتقل الخيام اللبناني وتحاول المقايضة بهم، كان رجال المقاومة ومعهم جماهير الجنوب يقتحمون المعتقل من كل اتجاه، ويحررون أسراهم الـ 146… هذا المعتقل الذي أقامته قوات جيش لبنان الجنوبي العميلة عام 1985م، لتسجن فيه المئات من مواطني الجنوب الرافضين التعامل معها.
أمام هذه الحقائق لم تجد الأوساط العسكرية “الإسرائيلية” مفراً من الاعتراف بتدهور الأوضاع الأمنية في الجنوب بشكل فاق كل التوقعات.. ولم تجد وسائل الإعلام مناصاً من الاعتراف بالهزيمة والخجل من تردي هيبة الجيش وصدمتها من عجزه عن السيطرة.
حالة الانهيار بين المدنيين الصهاينة الذين يعيشون في شمال فلسطين المحتلة على مقربة من الجنوب اللبناني كانت أشد سوءاً من حالة الجنود المنسحبين.. فقد سادهم الفزع وغادرت أعداد كبيرة منهم إلى وسط الكيان عند ذويهم، وعرض أعداد منهم منازلهم للبيع.. وبالرغم من تخصيص الحكومة ما يقرب من 500 مليون دولار كمساعدات في إطار خطة خاصة لحمايتهم، وبالرغم من زيارات المسؤولين الكبار لهم لطمأنتهم.. باراك.. شارون.. وايزمان.. حتى نتنياهو.. إلا أن الرعب لا يزال يسيطر عليهم ولم يتوقفوا عن مظاهراتهم الاحتجاجية.
وربما كان أولئك الغاضبون من سكان شمال الكيان الصهيوني أسعد حظاً من مليشيات جيش لبنان الجنوبي العميلة، وكل التابعين لإنطوان لحد.. فسكان الشمال من “الإسرائيليين” قد أحيطوا بكل سبل العناية والطمأنة والحماية على جميع المستويات “الإسرائيلية” بينما العملاء الذين باعوا وطنهم وأهلهم وظلوا يخدمونهم طوال 22 عاماً، أصبحوا كالأيتام على موائد اللئام.. بعد أن وجدوا أنفسهم في فراغ ولم يجدوا أحداً يهتم بهم وعوملوا معاملة المجرمين عند المعابر “الإسرائيلية” وهم يحاولون اللجوء “لإسرائيل” المكان الطبيعي للفرار.
ولم يتمالك أحد ضباط الجيش العميل نفسه بعدما تمكن من دخول الكيان الصهيوني.. لم يتمالك نفسه وهو يروي لصحيفة يديعوت أحرونوت مشاهد الذل التي يعيشها زملاؤه عند المعابر “الإسرائيلية” وهم يرجون “الإسرائيليين” السماح لهم بالدخول.
يقول الضابط العميل “للإسرائيليين”: أنتم تخونوننا.. لماذا تركتمونا نهرب بلا نظام؟! لماذا لم تساعدونا؟! لماذا جعلتمونا نمزق صلاتنا بشعبنا؟! لقد وعدتمونا بالمساعدة.. وقلتم لنا سننقلكم للعيش في “إسرائيل”.. إنني أتهم حكومة باراك: لم تفعلوا لنا شيئاً.. لقد خدمناكم مجاناً!
ولم يجد أريل شارون رئيس الليكود خلال لقائه بألفين من عناصر الجيش العميل، تم تجميعهم على شاطئ بحيرة طبرية ـ لم يجد إلا القول: «أطأطئ رأسي أمامكم وأخجل من النظر في وجوهكم»، لكن هذه التأسفات لم تحقق لأولئك المطاريد طلبهم في اللجوء “لإسرائيل”.
المعروف أن تعداد عملاء إسرائيل في جنوب لبنان يبلغ 2300 مقاتل، إضافة إلى ألف عنصر آخر يعملون في المخابرات والوظائف المدنية، ويشكلون مع عائلاتهم 10 آلاف نسمة، وهناك ألف عامل يعملون داخل الكيان، ويشكلون مع عائلاتهم 5 آلاف نسمة، أي أن عدد العملاء وعائلاتهم يصل إلى 15 ألفاً تركهم إنطوان لحد وفر إلى الخارج.
هذا على جبهة الهزيمة والذل.. جبهة الصهاينة وعملائهم.. أما جبهة الانتصار، حيث قوات المقاومة اللبنانية، فقد أثبتت تلك المقاومة بما لا يدع مجالاً للشك، أن المقاومة الشعبية الاستشهادية تظل الوسيلة المثلى في التعامل مع العدو المحتل.. فقد عايشنا في ربع القرن الأخير نموذجين للتعامل مع الكيان الصهيوني.. نموذج: المفاوضات.. والتطبيع على المستوى الرسمي.. ونموذج المقاومة والاستشهاد على المستوى الشعبي وجسدته حماس والجهاد الإسلامي داخل فلسطين… والمقاومة اللبنانية في جنوب لبنان.. والمتأمل لكشف حساب النموذجين يكتشف بسهولة أي السبل أفضل لاسترداد الأرض، واستعادة الكثير المفقود.. من الذات.. والكرامة… وفقد الصهاينة في جنوب لبنان وحده أكثر مما فقدوه في بعض الحروب النظامية مع أكثر من حكومة عربية.
إن أحداث الجنوب اللبناني تعيدنا إلى التأكيد بأن هناك طريقتين لا ثالث لهما في التعامل مع إسرائيل: طريق المفاوضات.. أوله الانبطاح.. وآخره الندامة، وطريق المقاومة.. أوله جهاد واستشهاد.. وآخره انتصار وكرامة.