احتفلوا فخراً بـ«طوفان الأقصى»، ويستبشرون بالقادم، هذا هو الشعور الغالب لدى الجماهير المناصرة للقضية الفلسطينية والقوى السياسية التي تمثلها في لبنان، لكن هذه الجماهير والقوى نفسها تعيش صراعاً شعورياً؛ ما بين واجب النصرة المسلح، وواجب الحفاظ على ما تبقى من لبنان.
الذين يحملون هَمّ القضية الفلسطينية؛ كل حسب مستوى تمسكه بها، عبروا عن مواقفهم، أيدوا، تعاطفوا، تظاهروا، تبرعوا، ناصروا.. لكن كثيرين منهم يعتقدون أن مستوى المعركة يتطلب المزيد؛ فتح الجبهة في جنوب لبنان لإشغال العدو والتخفيف عن أهل غزة، لكن الذين يقرؤون جيداً يدركون أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن العدو يخوض معركة وجود –على حد وصف وزير حربه- وأن أمريكا بثقلها على الخط، ووزير خارجيتها جزء من مجلس الحرب «الإسرائيلي»، والغرب عموماً مؤيد لـ«إسرائيل»، ودائم التحذير من أي مغامرة على جبهة أخرى.
لا يغيب عن بال هؤلاء؛ المحرقة التي تحل بغزة، والغزو البري قيد الإعداد، واحتمال ذبح المقاومة في غزة، كما لا يغيب عن العقل السياسي لـ«حماس» أن رأسها مطلوب، وأن العدو لن يتوقف حتى يتأكد من فقدان «حماس» لقدرتها على شن هجوم مماثل لـ«الطوفان»، الذي أذهل الصهاينة والعالم، لذلك انتقل المستوى السياسي في الحركة –للمرة الأولى- من لغة الحرص على أمن البلدان التي تستضيف الفلسطينيين، وتحديداً لبنان، إلى المطالبة، بل المشاركة الفعلية في فتح جبهة الشمال، في أكثر من عملية تسلل أو قصف باتجاه شمال فلسطين المحتلة.
بدورها؛ تدرس إيران الواقع بتأن كبير، سياستها ما تزال نفسها؛ دعم القوى التابعة أو المتحالفة معها، دون أن تنخرط هي في أي حرب، لكن المطلوب دولياً -هذه المرة – ألا ينخرط «حزب الله» أيضاً في الحرب، وألا يتعدى الأمر التسخين الحاصل راهناً في جبهة الشمال، بالحد الأقصى، وإلا فإن لبنان –كل لبنان- سيدفع الثمن، فضلاً عن تحمل الحزب وإيران الثمن أيضاً، وهو باهظ، رغم إدراك الجميع ما لدى الحزب من قدرات مؤذية جداً لـ«إسرائيل»، صمْت الحزب يفسر صعوبة القرار، والأمر متروك لمجريات الأمور، وواقع الميدان، سيما أن الحزب يدرك أن كسر المقاومة في غزة سيؤثر عليه، ليس فقط على نظرية «وحدة الساحات» التي لا ينفك يتبناها ويتحدث عنها، وإنما على احتمالية أن يكون هدفاً تالياً، بعد غزة.
أما بقية القوى المناصرة للمقاومة الفلسطينية، فهي تدرك أنها لا تملك القدرة بذاتها على فتح جبهة جنوب لبنان، وأن القرار أكبر من طاقتها، وأنها محكومة بحسابات لبنانية لا يمكن أن تغيبها التزاماتها القومية، وذلك مهما كانت درجة قربها من «حماس» -«الجماعة الإسلامية» و«حماس» فصيلان من مدرسة فكرية وتنظيمية واحدة- لذلك هي أيضاً تنتظر مجريات الأمور، وتشارك بحسب قدراتها في التسخين الجاري على الجبهة، لا سيما في القرى السُّنية.
أما ما هو عدا ذلك؛ سواء في الشارع المسيحي أو المسلم؛ فالأمر محسوم؛ «لبنان دفع الكثير وهو لا يحتمل حرباً جديدة»، سيما مع تردي أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وعليه؛ فإن «جدلية دخول الحرب» هي النقاش السائد اليوم في لبنان؛ في السر أكثر منه في العلن، نقاش يتعدى القوى السياسية فيما بينها؛ ليحل ضيفاً ثقيلاً على المجالس السياسية الداخلية للقوى السياسية نفسها، سيما أن الحكومة رهينة نقل المواقف والتحذيرات، وهي فاقدة القدرة على أخذ القرار، فضلاً عن فرضه.
وإزاء ذلك؛ فإن العين ستبقى على غزة، ومصير لبنان مربوط بمراحل الحرب؛ التي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً.