ما زلنا نعيش مع قضيتنا الفلسطينية وغزة الأبية نسكب مداد أقلامنا على أرض مقالاتنا -ونحن في خجل وأسف- وقلوبنا تنزف ألماً لوابل العدوان الغاشم على إخواننا الذين يقدمون بثباتهم ومواقفهم وشهدائهم ودمائهم على أرضهم كل يوم كل المعاني التي ساقتها اللغات والمعاجم والأفراد في البطولات والرجولة، لعلنا بهذه الكلمات أن نجلي حقاً، أو نثبت قدماً، أو نغير مفهوماً ونوقظ عقولاً.
إن القضية الفلسطينية ليست قضية لشعب يبحث عن حقه المسلوب، ومأمنه المرهوب، وترابه المنهوب فحسب، إنما هي قضية أمة توقظ في قلوب أبنائها عقيدة، وتراثاً، وشريعة وانتماء، وعزة وإباء، هي في حقيقة الأمر مقياس لحرارة الإيمان، وجذوة اليقين، وإحياء المجد، ووفاء العهد.
هي تحقيق لمفهوم العبودية والهوية وإحياء فقه البعث من السبات العميق كما في قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) (الإسراء: 5).
لقد اجتمع كثير وما زالوا يجتمعون في ساحات قرارهم ومجالس اتفاقهم وصفقاتهم؛ إما على كسر شوكة الشعب المعزول والمحاصر بدعم عدوهم، وإكبار وإكثار آلتهم، وزهو استخباراتهم، وحمل بقية المنتكسين المخذولين من أبناء أوطاننا معهم، وإما على الطرف الثاني ما يحاول به البعض من «وسطنة» الأمور بالحنكة السياسية ووجود مخرج غير محرج بين شعوبهم وشيء من حمرة الخجل –الباهتة- في دعم إخوانهم، وكل هذا يدخل في القرارات الدولية التي تحكم الخطط وتسيس الحصار وتدفع بالاتفاقات وتغري بالمساومات.. وهذا وإن كنا نخشاه ويغيظنا إلا أننا نقرأه بعين السنن الإلهية ورؤية الله الكبير فوق تلك الدول والساسة والخطط.
لكن ما يعنيني هنا بيان أن معادلات الأرض من الفرد الأمة أقوى بكثير من قرارات وخطط الدول والساسة، نعم رُبّ فرد مؤمن بقضيته، جامع لأسباب نصرتها، مُقَدّم كل ما يملك في سبيلها، مغلقاً لثغراتها بما يستطيع، يعيش ويموت من أجلها، يعذر نفسه أمام ربه؛ يغير على الأرض كل هذه القرارات، ويدفع تلك الأجهزة والعقول إلى الرضوخ ما ثبت قدمه ولم يخرّ عزمه، والجدار الحديدي –البلاستيكي- وما فعل به نموذج حي!
لقد غير صحابي جليل بمفرده أولاً ومن انضم إليه من المستضعفين ثانياً بنود بيعة وصلح جائرة قد عقدها العدو القرشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بنقض من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاشاه أن ينقض عهداً معهم، بل إنه التزم به مع جور بنوده، فقد جاء في الحديث عند أحمد في حديث صلح الحديبية: «فَجَاءَهُ -أي النبيَّ بعد الصلح- أَبُو بَصِيرٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مُسْلِمٌ، فَاسْتَأْجَرَ الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ رَجُلًا كَافِرًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَمَوْلًى مَعَهُ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ الْوَفَاءَ فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ».
لكن هذا الصحابي ومن معه كانوا خارج محيط هذا الصلح، فهو فار من المشركين ولم يستطع الدخول في جوار إخوانه من المسلمين لالتزامهم، وقد قتل بحيلته أحد الطالبين الراجعين به وفر الآخر، وبدأ أبو بصير بمعادلته على الأرض تغيير ما تشبثت به دولة الجور والظلم من بندٍ أعدوهُ أهم مكاسبهم، وأظفر نجاحاتهم وهو البند الذي جاء في الرواية: «أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ، إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا».
فماذا فعل أبو بصير وهو فرد بمعادلاته الأرضية مع أمة؟!
فعند أحمد من حديث المسور بن مخرمة حديث صلح الحديبية وفيه: «.. فَخَرَجَ –أبو بصير- حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، قَالَ: وَيَنْفَلَّتُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ –من مكة- فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُنَاشِدُهُ اللهَ وَالرَّحِمَ لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ) (الفتح: 24).
والحديث المقصد منه أن يثبت أقدام قوم ليس لهم بعد الله عز وجل إلا أنفسهم وعزتهم وقضيتهم، ولقد سمعنا -في شدة هذا الحصار والقصف- من إخوة في غزة وفلسطين يثبتون إخوانهم خارجها، يقولون بصبرهم ويقينهم: إنهم وما هم فيه بخير وفي منتهى القوة على الأرض كحال أبي بصير رضي الله عنه، ولنا معه وقفه تخدم قضيتنا وتثبت رؤيتنا:
– دائماً يوجد أبو بصير في الأمة؛ أفراداً وجماعات، يعرفون ماذا يريدون ويقدمون التضحيات والبطولات على الأرض.
– أهم ما في شخصية أبي بصير هو وضوح هذا المتشبث بقضيته الجامع لأسبابها غير الراضي لبنود الجور والظلم التي تعقدها الدول الجائرة بتطفيف وخذلان.
– ثبات فرد واحد وصبره في ساعة الشدة كفيل بالسماع به والإتيان إليه وتأييده والالتفاف حوله وزيادة عدده؛ ومن ثم زيادة القوة الميدانية لتغيير معادلات الأروقة النظامية والتحالفات السياسية.
– لا يتغير جور بسياسة، ومن على الأرض يعي ذلك تماماً، خاصة إذا كان المقابل لا يعرف إلا لغة الغشم والعدوان ويظهر الكبر والاستعلاء، والقوة هنا لا تنحصر في القوة العسكرية، بل هناك قوة أقوى بكثير اقتصادية وثرواتية ومصالح وغير ذلك، ولو أن لها رجالاً لتغير كثير من القرارات وانخفضت مستوى الأصوات المستكبرة.
– لم يملك أبو بصير وإخوانه حقيقة على الأرض كثيراً من العتاد والعدة، بل ربما ليس معه شيء، لكنه يثبت أن بمقدور كل مظلوم بمعادلاته الأرضية تغيير واقعه وإيلام ظالمه.
– دائماً هناك ثغرات يستطيع أن يستخدمها أصحاب الحقوق للوصول لحقهم لا يلتفت إليها عدوهم ولا يحصرونها في مخططاتهم.
– لا نزعم عدم وجود الخسائر في الوصول لحقنا وأرضنا، فنوم أبو بصير في العراء وأصحابه وانعدام مقومات العيش الطبيعي وفقدان الدعم والإمداد، وغياب معرفة انتهاء الأزمات كلها خسائر كبيرة لكنها لا تطول.
– ليس صاحب الحق والأرض كصاحب الباطل والغصب، شتان بين هذا وذاك، فالأول يرى أن أرضه وسماءه وخلق الله في كونه معه يشد من أزره ويؤمن بحقه ويسخر له ما يحقق به فوزه ونصره، وعقيدتهم جبارة وقضيتهم مستحقة، بخلاف أهل الباطل الذي ينتشي ويعلم أنه سارق وضعيف.
– أهم ما يشغل الباطل ألا يخسر مالاً واقتصاداً وسمعة، وإن ضحى ببنود عهد بذلك؛ لأنه يعلم تماماً أن المعادلة الأرضية أقوى من بنوده وادعاءاته وصفقاته، وعند ذلك تتهاوى جميعها في لحظة واحدة.
أقول لكل التحالفات التي تدعم العدو والمحتل: إن تاريخ الأمم المدافعة عن حقوقها والمخالطة بأرواحها ودمائها غبار أرضها قد ثبت بمعادلاتهم الأرضية أنهم أقوى بكثير من أدواتكم وآلتكم الحربية، نضعف أحياناً لكن سرعان ما نقوى ونخسر جولة لكننا الأبقى، ولا شك.