«لا أريد طعاماً ولا شراباً.. إنما أريد بيتي! أريد بيتي ولا شيء غيره.. أريد خيمة أغرسها على أرض بيتي الذي امتزج ترابه بدماء أهلي وأولادي.. أين بيتي.. أريد الرجوع لبيتي..».
كان يصرخ بهذه الكلمات التي تقطع نياط القلوب، ويبكي بكاء مراً، تسيل معه دموع حارة قد التهبت بنيران الظلم ونار العدوان على بيته وأهله وحرماته، فقد هدم بيته وأسقط على رؤوس أحبابه بلا شفقة ولا رحمة، ودون احترام لحقٍّ أو ميثاق.
ما زال منظر الدماء أمام عينيه لا يضيع من مخيلته وكأنها تسيل للتوِّ واللحظة! وما زالت صور الأشلاء البشرية والأجساد الممزقة تطارده في صحوه ومنامه ولا تفارقه، وها هو يجلس مذهولاً وقد أوشك الجوع أن يقتله فهو يتلوى من شدته، والبرد قد سرى في أطرافه فكادت تتجمد؛ فهو يسكن في العراء ويلتحف السماء، بلا بيت يؤويه، خائف مضطرب، يرتجف قلبه كلما تذكر ما حصل، لا يعرف إلى أين يذهب ولا في أي مكان يجلس ولا إلى أي طريق يسير!
يرى الموت ويعيش أسبابه كل لحظة، ويطارده شبحه رغماً عنه، لا يجد ماء يشربه، ولا مسكناً يؤويه، ولا طعاماً يسد رمقه، ينادي بلسان حاله على المنصفين في كل مكان ليسعفوه ويدفئوه، ويطعموه ويشبعوه، ويطمئنوه ويُسكنوا خوفه ويرفعوا عنه الظلم والحبس والتجويع، ينادي وينادي عليهم علهم ينقذونه مما هو فيه، فهل يتركونه أم يشاركون في إنقاذه وإحيائه من جديد؟!
إنه في حصاره ينتظر، لكنه ما زال ينتظر وينتظر وينتظر، عله يجد من يسعى بصدق ليرجع له حقه وينتشله مما هو فيه، إنه يموت قهراً وكمداً كل لحظة وهو يرى مَن يسلبه حُلمه، ويسرقه بكل جرأة، ويعمل لإجلائه عن بيته بكل قوة، ويسعى للتخلص منه أينما ذهب؛ براً وجواً وبحراً، بلا رحمة ولا هوادة، إنهم سارقو الأحلام الذين يئدونها في مهدها كلما أطلت برأسها لتتنفس وتظهر، ومع كل حلم يسرقونه يتظاهرون بالبراءة ويدّعون أنهم أصحاب الحق، ومالكو الأرض، فما أقبح جرأة السارق حين يدَّعي لنفسه ملك ما سرق!
جلس متوجعاً يحترق قلبه وهو يستعيد ذكرياته، ويسترجعها في عقله، فتتوق نفسه للعودة لبيته، فهو يحمل عبق الماضي وحلم المستقبل، وهو له كل عمره!
لقد كان له بيت جميل يملكه منذ زمن طويل في أرض آبائه وأجداده العظماء، وقد بناه بعرق جبينه، وأسسه بماله الحلال لبنة لبنة، وأثثه بالعدل والحب والتراحم مع عائلته الطيبة، وقد تواصى كل فرد فيما بينهم برعاية هذا البيت وأن يحافظوا على بنيانه وأرضه ليكون إرثاً لمن يأتي بعدهم، وألا يضيعوا مفتاحه من بين أيديهم، كان بيته هذا أشبه بالحديقة الغناء التي تحوي من الثمار أفناناً، ومن الحياة ألواناً؛ فأصل الثمار فيها أمه وأبوه، وفروعها وأغصانها إخوته وأخواته، أما الثمرات التي تنضج عاماً بعد عام فهي بنوه وبناته.
كان بيتاً رائعاً مليئاً بالحركة والحياة، يحوي آمال وأحلام هذه الأسرة الكبيرة، فقد كان لكل منهم حُلم في حياته يكبر معه كلما كبر، ويسعى لتحقيقه كغيره من البشر، وكان الحلم الأكبر لكل منهم الحفاظ على ملكية هذا البيت العريق وحمايته من اللصوص والمتطفلين، والحذر ممن يطمع فيه ويرغب في الإضرار به أو اغتصابه منهم، لذا فإنهم تعاهدوا ألا يَخرجوا منه، أو يتخلوا عنه، فهو حق لهم ولمن يأتي بعدهم، وحقهم هذا طبيعي ومشروع.
كان هذا الحُلم يورث لكل فرد في الأسرة، ويُنقش في عقول أطفالها منذ نعومة أظفارهم، فالأرض أرضهم، والبيت ملكهم، وفيه يسعون لتحقيق أحلامهم في هذه الحياة، فهو بيت الأحلام الكبيرة كأصحابها.
ها هم يجلسون في بيتهم يتسامرون في جلسة عائلية طيبة، وكلٌّ يعدد أحلامه مع حُلمه الأكبر، وتداخلت الأصوات وامتزجت بصدق النوايا وهِمة الصادقين! سوف أكون معلماً لأسير على درب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأرفع الجهل عن النفوس، وأرقى بالعقول، وأبث فيها من نور العلم الذي تعلمته لتستنير به وترتقي، سوف أعلمهم كتاب الله عز وجل، الذي يستمدون منه عزهم وقوتهم، ويعرفون الصديق الصادق من العدو الكاذب.
وأنا سأكون مهندساً لأساهم في نهضة بلدي وتقدمها، سأخطط لها الطرق التي تربطها بغيرها من البلاد، وأصمم أحسن التصميمات لأحسن البيوت والعمارات، أو مهندساً أصنع لها الطائرات والمركبات، لتقوى وتشتد ويهابها اللصوص المجرمون أعداء الأمن والسلام.
وأنا أحلم أن أكون طياراً أحلق في سماء بلادي وأحميها، وأتنقل في أجوائها بحُرية، وأطير في فضائها حارساً لأرضها وأنا في السماء، يا له من شعور عجيب تستشعره آنذاك!
وأفصحت أختهم الأميرة الجميلة عن حُلمها بصراحة، فقد اتخذت القرار بالليل والنهار لتسلك درب الطب والتمريض وكلها همة ونشاط، تنتظر اللحظة التي تتأهل فيها لتكون اليد الحانية لمثيلاتها من النساء فتستر عوراتهن وتستقبل مواليدهن حين تتعانق صرخة الحياة الأولى لهم بفرحة الأمهات باستقبالهم.
أما هو فقد كان في عمله بالمشفى ذات يوم حين سمع الصرخات والأنَّات ترتفع وتزداد، ورأى الدماء تسيل في الطرقات، وقد أتى المسعفون مسرعين يحملون عدداً من المصابين والجرحى تسيل منهم الدماء وهم بين الحياة والموت، جرى هنا وهناك ليجهز مكاناً لإسعافهم، وما إن كشف عن وجوههم إلا وكانت المفاجأة التي أذهلته ونزلت عليه كالصاعقة؛ إنهم أفراد أسرته الحبيبة، أصحاب الأحلام الكبيرة بالأمس!
ها قد سُرقت منهم أحلامهم وهُدم بيتهم على رؤوسهم وأخرجوا من بين أنقاضه شبه أموات، بعد أن ارتوت أرضهم بدمائهم الزكية، فيا له من موقف لا تمحوه الأيام! ولا تُنسي آلامه مرور السنين الطوال، لكنه مع كل ذلك، تصّبر واحتسب، وقد ألقى الله تعالى عليه الصبر والثبات، فاستمر في مشفاه يعمل فلعله ينقذ روحاً تحتاج منه العلاج.
ومع مرارة فقد الأحبة التي لا تفارقه، فهو على يقين أنه حتماً سيعود لبيته في يوم ما، وسوف يسترد ترابه ممن سرقه منه، ويستنقذ من جديد حُلمه، فما زال مفتاح البيت في جيبه والحمد لله.