لا تهدأ عملية عسكرية يقوم بها الاحتلال على غزة حتى تشتعل أخرى، وفي كل مرة تتباين ردود الفعل بين مؤيد للحق الفلسطيني، وآخر منحاز للعدوان الصهيوني، حروب توالت على فلسطين بدأت بعمليات العصابات الصهيونية في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم تطورت فيما بعد إلى جيش منظم يحارب الجيوش العربية مجتمعة، ويحتل أقطارها الرئيسة قبل أن يلتهم كل فلسطين.
عقب الحرب العالمية الثانية، اتجه المجتمع الدولي إلى إقرار بعض الأعراف الإنسانية التي أنشأتها الشرائع ورسختها تقاليد الشعوب، والخاصة بالضوابط والاشتراطات الإنسانية حال الحرب، حيث تمت كتابة قواعد القانون الدولي الإنساني ومواده في اتفاقيات جنيف التي تم توقيعها في العام 1949م وملاحقها في فترات زمنية تالية.
ينصب اهتمام القانون الدولي الإنساني على موضوعات عدة، أبرزها أمران؛ الأول: يتعلق بحماية البشر ضحايا الحروب، حيث منع تعرض القوى المتحاربة لفئات بعينها تتأثر بالأعمال العسكرية كالمدنيين غير المشاركين فيها، والجرحى، والأسرى، والطواقم الطبية، وعمال الإغاثة والدفاع المدني، والثاني: يتعلق بتنظيم استخدام الأسلحة في القتال، حيث يمنع استخدام أطراف الحرب للأسلحة المحرمة دوليًا، التي لها أثر مدمر على الإنسان والبنيان والبيئة، كالقنابل العنقودية، وقنابل الفوسفور الأبيض، والأسلحة الكيميائية، والقنابل الفراغية وغيرها من الأسلحة ممتدة الأثر خطيرة المفعول.
المتابع لحرب الصهاينة على فلسطين عبر الزمان ومنذ بدء الاحتلال، يجد كل الأمور التي حظرها القانون الدولي الإنساني قد اقترفها الاحتلال ضد فلسطين بالعموم، وغزة المحاصرة بالخصوص، وفي مقدمتها الطرق التي يستخدمها الاحتلال في تهجير القرى والبلدات الفلسطينية، المعروفة والمسجلة عبر التاريخ، ليس أولها مذابح صبرا وشاتيلا، وليس آخرها «طوفان الأقصى».
في عملية «طوفان الأقصى» التي نعيش فصولها الكئيبة هذه الأيام، ارتكب الاحتلال الصهيوني كل الفظائع التي جرمها القانون الإنساني الدولي، فهو من ناحية قد استهدف كل الفئات المشمولة بالحماية، فاستهدف المدنيين عبر قصف بيوتهم بالطيران، ويمعن في الإجرام بأن يتخير أوقات القصف، حيث يستهدف الأحياء السكنية قبيل الفجر، في أوقات الراحة والنوم -إن كان أهل غزة ينامون!- كما يستهدف أماكن التجمع الطبيعية للناس، في الأسواق والأفران والمقاهي، فضلًا عن ضرب المدارس التي فر إليها من بقي من العائلات التي هدمت منازلهم فوق رؤوسهم، كما لم يتورع عن قصف المستشفيات وآخرها مستشفى المعمداني الذي ارتقى فيه ما يقارب 500 شهيد، ولا يفرق بين المساجد والكنائس بالقصف، حيث قصف مسجد الأنصار بجنين وكنيسة الروم الأرثوذكس بغزة، ولم تنجُ الطواقم الطبية وطواقم الدفاع المدني من عدوانه.
وعلى صعيد الأسلحة المحرمة، فقد استخدم الاحتلال الصهيوني كافة الأسلحة المحرمة، المعروفة وغير المعروفة، فالقنابل الفراغية، والفوسفورية والكيميائية، كلها حاضرة في الحرب على غزة، وآخرها قنبلة «MK» الأمريكية التي تحمل ما يقارب الطن من المواد شديدة الانفجار التي استخدمها الاحتلال في قصف مستشفى المعمداني، حسب الاستقصاء الذي نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال الأمريكية».
كل هذه الجرائم التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني تنسف أسس القانون الدولي الإنساني، وتفضح عدم جدواه، أو بالأحرى تعني تعطيله في الحالة الفلسطينية، فالجرائم التي استعرضناها لا تمثل 1% مما يرتكبه الاحتلال ليل نهار، وبالرغم من ذلك لم تتحرك المنظمات الدولية المعنية بحفظ حدود القانون الإنساني، وإن تحركت فعلى استحياء بلا فاعلية.
القانون الدولي الإنساني.. والمقاومة المشروعة
منذ اليوم الأول للحرب على غزة، صمت العالم عن إدانة جرائم الاحتلال التي يتم بثها على الهواء مباشرة على مدار اليوم، وأحل محلها إدانة لأعمال المقاومة التي هي حق من الحقوق التي أجازها القانون الدولي للفصائل الفلسطينية التي تسعى للتحرر الوطني من احتلال عسكري غاشم، لم تتوقف الجهود الغربية الداعمة للوجود الصهيوني ببلادنا عند مرحلة الدعم المعنوي المتمثل في الزيارات المكوكية التي يقوم بها زعماء المجتمع الغربي ليل نهار، بل انتقلت إلى دعم مفتوح وغير مشروط للعدوان؛ بالمال والسلاح والمواقف الدولية الداعمة؛ ما يتضح معه أن منظومة القوانين الدولية، ومنها الدولي الإنساني، إنما صنعها القوي ليعزز من قوته في مواجهة الطرف الضعيف، أو أنها منظومة خلقت للتجمل أكثر من دعم الحق الإنساني، وتتوازى جهود إدانة المقاومة ووصمها -زورًا- بالإرهاب مع تلك الجهود المعطلة للقانون الإنساني بشأن الحرب على غزة.
الجريمة الأكبر التي يعمل عليها الاحتلال في هذه الحرب هي سعيه لتهجير أهل غزة خارج القطاع، في ظل تنفيذ ما يعرف بـ«صفقة القرن»، وهو ما يعيد على الفلسطينيين مأساة اللجوء والنكبة التي شهدتها بلادهم في عامي 1948 و1967 وغيرهما من التواريخ الكئيبة على الشعب الفلسطيني.
دعم القضية
أدوار كثيرة ينبغي لمن يريد دعم القضية الفلسطينية القيام بها، تبدأ بتكثيف إيصال المساعدات الإنسانية، وتوفير الرعاية الصحية للمصابين، وإيصال وسائل الدفاع المدني للمعاونة في حماية أرواح الناس وانتشالهم من أنقاض البيوت المهدمة.
لكن كل هذه الأمور على أهميتها ليست الأولوية، فالأدوار ذات الأولوية تتمثل في التالي:
– دعم الحق في المقاومة، باعتبارها حقاً طبيعياً كفله القانون الدولي كما ورد في «الإعلان الدولي لحقوق الإنسان والمواطن»، وهي أداة من أدوات تقرير المصير الذي كفله «إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة»، كما أنه لا سبيل للتفرقة بين حق الأوكرانيين في مقاومة روسيا، وحق المقاومة في دفع العدوان على غزة.
– رفع الحصار المفروض على غزة وإعادة النظر في الاتفاقيات المكبلة للحق الفلسطيني التي تحول دون حصوله على الحقوق الطبيعية للحياة من طعام وشراب ودواء.
– فتح المجال للدعم الشعبي للحق الفلسطيني، بتعزيز ثقافة مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال، وتنظيم حملات التبرع عبر منابر رسمية وشعبية، وتنمية الوعي بالقضية في المدارس والجامعات والمساجد.
– اتخاذ تدابير فنية لتوثيق جرائم الاحتلال الصهيوني والسعي نحو إدانته في المحافل الدولية، وذلك عبر فعاليات التوثيق الرسمية والشعبية والفنية.
– تصويب الأوصاف والمصطلحات التي يسعى الغرب لتمريرها خلال هذه الحرب، عبر مجابهة وصف المقاومة بالإرهاب، وتحرير أوصاف المعركة فهذا عدوان على الأراضي يقابله مقاومة مشروعة، وهذا أسير تم أسره باعتباره جندياً محتلاً يجوز مبادلته بالأسرى الفلسطينيين بسجون الاحتلال.
– الدعم الشرعي والديني للمقاومة عبر الفتاوى والتقارير الشرعية التي ترفع عن الأمة الوزر وتوضح للأجيال الجديدة حدود الحق الشرعي في دفع العدو ومشروعية الجهاد ضده.
– إصدار مدونة للمعالجة الإعلامية للشأن الفلسطيني، لرفع الظلم الواقع على الحق الفلسطيني بوسائل الإعلام المرئية والإلكترونية، وحصار المحتوى بوسائل التواصل الاجتماعي.
غزة لا ينبغي أن تبقى وحيدة في مواجهة العالم أجمع، وإن كانت الأمة في مجموعها في حالة عجز عن أداء بعض الأدوار، فلا ينبغي أن تعجز عن أدائها كلها، فإن «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»، وهذا أضعف الإيمان.