كان العدوان على المسجد الأقصى المبارك، ومحاولة طمس هويته الإسلامية، وتوظيف الطقوس التوراتية لتحويله إلى مقدس مشترك تمهيداً لتهويده بالكامل؛ العنوان المركزي وقادح التفجير الذي من أجله انطلقت المقاومة في معركتها المظفرة «طوفان الأقصى»، وهي المعركة التي بدأت في اليوم الأخير من العدوان الأعتى الذي يشهده المسجد الأقصى في تاريخه.
ولعل ما تمكنت معركة «طوفان الأقصى» من إلحاقه بالجيش الصهيوني من هزيمة مذلة يدفع للافتراض بأن الكيان الصهيوني سيحاول أن يتجنب تكرار هذه الهزيمة بكل الأشكال؛ وبالتالي سيتجنب العدوان على المسجد الأقصى، ويلجم جماعات الهيكل والمستوطنين عنه، لتهدئة قادح التفجير الذي أخذه حتى الآن إلى 10 مواجهات متفاوتة الحجم والشكل والطول منذ عام 1996م، فكان «الأقصى» بذلك العنوان الأهم لاستنزاف قوته وإيصاله إلى نقطة هزيمته.
واقع الأمر أن الاستجابة الصهيونية تبدو مختلفة حتى الآن، إذ لجأ الاحتلال لتصعيد عدوانه على المسجد الأقصى المبارك بمنع المصلين من الوصول إليه، ووضع سقف عمري تراوح ما بين 60 – 70 عاماً على كل الصلوات منذ يوم السبت 7 أكتوبر 2023م، وليقيد الوصول للمسجد الأقصى لتصل أعداد المصلين في صلاة الجمعة إلى 5 آلاف فقط، وهو الرقم الذي تكرر قبل ذلك مرتين خلال حرب عام 2014م؛ وليفتح بالمقابل باب الاقتحام للصهاينة بلا قيود، وليسمح لهم بالطقوس والرقص والقراءات العلنية للتوراة، في رد فعل نفسي يظن من خلاله أنه يثأر لهزيمته، وأن العنوان الأبرز الذي من أجله قامت المعركة لم تتمكن من تغيير مصيره، دون أن يدرك أنه بذلك يستديم أسباب الحرب والتفجير، وأن «الأقصى» سيستمر بذلك عنواناً لاستنزاف قوته، بل وإفنائه.
جزء كبير من فهم رد الفعل الخالي من العقل هذا قراءة موقع «الهيكل» في الفكر الخلاصي لحركات الصهيونية الدينية التي تسيطر على الحكومة الحالية، وشكلت حتى انطلاق هذه الحرب تياراً قائداً في المجتمع، فهذه الأيديولوجيا تؤمن بأن الغاية المطلقة لعملها السياسي هو تحويل الكيان الصهيوني إلى «مملكة الرب» التي يقودها الرب بنفسه عبر إرسال المخلص –وفق فهمهم- ما يعني أن تحقيق أسباب تحولها إلى مملكة للرب ستؤدي في النهاية إلى أن يتدخل الرب في مجرى التاريخ بمعجزة ظاهرة «تكبت أعداء إسرائيل، وتخضع لها أعناق الأمم».
تعتبر الصهيونية الدينية إقامة «الهيكل» أهم المقدمات المركزية لتحويل الكيان الصهيوني إلى «مملكة الرب»، وهم لذلك يرونه الجوهر الناقص للصهيونية التي يجب إكمالها بتحقيقه، إذا ما أدركنا طبيعة هذه الرؤية الصهيونية الدينية، فهذا يعني أن محاولاتهم لطمس هوية المسجد الأقصى وتحويله إلى «هيكل» ستشتد كلما ضاق الخناق عليهم وعلى كيانهم، فكلما لحقت بهم الهزائم وأظلمت أمامهم الآفاق فإنهم سيكونون أكثر حاجة للتدخل الإلهي المباشر في مجرى التاريخ، وأكثر إلحاحاً في استدعائهم للمخلص المنتظر، وبما أن المسجد الأقصى هو بوابة استدعائه، فإنهم سيلجؤون للعدوان عليه أكثر رغم أن المنطق العقلاني البحت يقتضي منهم أن يفعلوا العكس.
انطلاقاً من ذلك، فإن الدعوات المتتالية إلى هدم قبة الصخرة من جماعة «العودة إلى جبل الهيكل»، أو دعوة جماعات الهيكل إلى صلاة علنية جماعية «للدعاء لجنود إسرائيل» يوم الأحد 22 أكتوبر في تمام الساعة العاشرة صباحاً في المسجد الأقصى، تأتي في هذا السياق: استدعاء التدخل الإلهي لتغيير مجرى التاريخ.
المهم أن نقرأه هنا أن اللجوء لهذا الخيار هو ابن اليأس وليس نتيجة الإصرار والصلف، فإقرار الصهيونية الدينية الداخلي بأن القوة الذاتية الصهيونية باتت عاجزة عن حسم المعركة هو ما يدفعها إلى أن تعتنق التدخل الإلهي باعتباره المخرج الوحيد، فالواضح أن الجيش الصهيوني والتحالفات غير قادرة على فرض الانتصار وتصفية الأعداء، فلا بد من استدعاء القوة الإلهية لتفعل ذلك، وإذا ما صحت هذه القراءة بما لها من شواهد، فيمكننا القول اليوم: إن المبالغة في استهداف المسجد الأقصى قد بات مؤشراً على مدى اليأس الصهيوني؛ على مدى الشعور بالمأزق واستشعار عجز التخطيط والفعل البشري عن تأمين مخرج منه، ما يجعل استدعاء التدخل الإلهي بوابة الحل الوحيدة المتبقية.