يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الثاني عشر بعنوان «البدء بنقاط الاتفاق مع المدعوين».
التأصيل الشرعي
إن الناظر في القرآن الكريم يجد أنه أشار إلى أن البدء بالعوامل المشتركة ونقاط الاتفاق يعد ركيزة أساسية في الالتقاء بين الناس والتأثير عليهم، ففي قصة سيدنا يوسف عليه السلام، بدأ الحديث بين إخوته بموضع الاتفاق بينهم، وهو يتمثل في محبته وأخيه إلى أبيه أكثر منهم، حيث قال تعالى: (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {8} اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ {9} قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) (يوسف)، ففي الآيات تأكيد على التقائهم من أجل هدف واحد؛ هو إبعاد سيدنا يوسف عن أبيه، حتى يستريحوا منه، ثم اختلفوا بعد ذلك في طريقة الإبعاد؛ هل يقتلونه أم يرمونه في البئر؟! لكن الاتفاق الذي جمعهم لم يجعل اختلافهم في الوسيلة يمتد طويلاً، بل اتفقوا سريعاً على إلقائه في البئر، وسعوا جميعاً في ذلك.
البداية بنقاط الاتفاق تمهد الطريق أمام التفاعل مع الموضوع المطروح
فالبداية بنقاط الاتفاق من شأنها أن تمهد الطريق أمام الاجتماع والتفاعل مع الموضوع المطروح، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه قوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، صعد على جبل الصفا، ونادى على الناس حتى اجتمعوا له، فقال: «أرَأَيْتَكُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بالوَادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ علَيْكُم؛ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟»، قالوا: نَعَمْ، ما جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إلَّا صِدْقاً، قالَ: «فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»(1)؛ ففي هذا تأصيل للبدء بنقاط الاتفاق مع الآخرين، حيث حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستناد إلى التاريخ الممتد بينه وبينهم، واستدعاء قيمة الصدق الثابتة له، كي يبني عليها حواره، وينطلق منها نحو مقصده الدعوي.
التوظيف النفسي
أكدت الدراسات النفسية أن التشابه بين الجمهور والمتكلم يساعد على توحد الجمهور به، ومن ثم الاقتناع بمحتوى الرسالة(2)، وفي هذا تأكيد على ضرورة سعي المتكلم إلى إيجاد هذا التشابه بينه وبين مستمعيه، ويمكن إيجاده من خلال البدء بنقاط الاتفاق؛ لأن هذا الاتفاق يسهم في إيجاد قاعدة مشتركة بين المتحدث والمستمع؛ حيث «إن من شأن البدء بنقاط الاتفاق مع المحاوَر الآخر: امتلاك قلبه، وتقليص الفجوة، وكسب الثقة بين الطرفين، وبناء جسر من التفاهم يجعل الحوار إيجابياً متصلاً، أما البدء بنقاط الخلاف فينسف الحوار نسفاً مبكراً»(3)؛ ولهذا يحرص المتحدث البارع على إهمال مواضع الخلاف واستبعادها في بداية الكلام، وحمل المستمع على موافقة المتحدث في كل ما يقال.
يقول ديل كارنيجي(4): المتحدث اللَّبق هو الذي يحصل في مبدأ الأمر على أكبر عدد من الإجابات بـ«نعم»، فهو عندئذ قد وجه ذهن محاوره وجهة إيجابية يصعب عليه التخلي عنها، أما كلمة «لا» فهي تجعل كيانه جميعاً يتحفز لمناصرته في اتجاهه نحو الرفض، وقد يشعر فيما بعد أن كلمة «لا» لم تكن في موضعها، لكن كبرياءه يمنعه من النكوص على عقبيه أو الرجوع عن قوله، ومن ثم كان الأرجح أن تبدأ الحديث مولياً اهتمامك للناحية الإيجابية، ومتجاهلاً الناحية السلبية تماماً، حتى تفوز بكلمة «نعم»، وتحصل على التأييد الكامل.
التوظيف الدعوي
يحرص الداعية على توظيف نقاط الاتفاق مع المدعوين في حسن تهيئتهم لقبول دعوته، وذلك من خلال الوسائل الآتية:
أولاً: التعرف على المدعوين والإحاطة بأحوالهم؛ حيث يسهم التعارف في الوقوف على النقاط المشتركة وأوجه التلاقي بينهم، ويدل على هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين خرج في موسم الحج يعرض نفسه على القبائل، فوجد قوماً، فقال لهم: «من أنتم؟»، قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي يهود؟»، قالوا: نعم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، فأجابوه(5)، ففي هذا الموقف ما يؤكد أن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على معرفتهم وحديثه عن خلفياتهم الاجتماعية ما جعلهم يتحدثون إلى بعضهم أن هذا هو النبي الذي تتوعدكم به يهود، فلا يسبقونكم إليه؛ مما أدى إلى سرعة استجابتهم له.
التشابه بين الجمهور والمتكلم يساعد على الاقتناع بمحتوى الرسالة
ثانياً: لفت الانتباه واستدعاء التركيز بذكر مواضع الاتفاق، حيث يبدأ الداعية حديثه بنقاط اتفاق بدهية ومُسَلَّمات لا يختلف عليها أحد، من أجل لفت الانتباه لما يأتي بعد ذلك، ويدل على هذا ما ثبت عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ يَوْمَ النَّحْرِ، فقَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا..»(6)، فقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم خطابه بالسؤال عن أشياء لا يختلف عليها أحد، من أجل جمع القلوب والعقول حوله، والتركيز على ما يأتي بعدها من توجيهات مهمة.
ثالثاً: التأكيد على حب الخير لهم؛ فإن الداعية الذي يبدأ بالتأكيد على حب جمهوره ورجاء الخير لهم؛ يستميل قلوبهم ويستنطق ألسنتهم بما يريد، ويدل على هذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين دخل على عمه أبي طالب وهو مريض، وعنده جماعة من قريش، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك يشتم آلهتَنا، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، إن قومك يَشْكُونك، يزعمون أنك تشتم آلهتَهم وتقول وتفعل، فقال: «يا عَمِّ، إنما أُريدُهمِ على كلمةٍ واحدةٍ تدين لهم بها العرب، وتُؤدِّي إليهم بها العجمُ الجزية»، قالوا: وما هي؟ نَعَمْ، وأبيكَ، عَشْراً، قال: «لا إله إلا الله»(7)، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم حديثه معهم مؤكداً حرصه عليهم ورغبته في رفع مكانتهم، مما جعلهم ينهضون في لهفة إلى ما يقول.
الدليل على التأثير الناجح
تعددت المواقف الدعوية التي تدل على التأثير الناجح للبدء بنقاط الاتفاق مع المدعوين، ويظهر هذا التأثير في تحقيق القبول والاستجابة للدعوة.
ومن ذلك ما ثبت أن قريشاً ذهبت إلى الحصين وكانت تعظّمه، فقالوا له: كلّم لنا محمداً، فإنه يذكر آلهتنا ويسبّهم، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: «أوسعوا للشّيخ»، فقال حصين: ما هذا الّذي بلغنا عنك؟ إنك تشتم آلهتنا، فقال: «يا حصين، كم تعبد من إله؟»، قال: ستاً في الأرض وواحداً في السماء، قال: «فإذا أصابك الضّر من تدعو؟»، قال: الذي في السماء، قال: «فإذا هلك المال من تدعو؟»، قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده وتشركهم معه؟ أما إِنك لو أسلمتَ عَلَّمْتُك كلمتينِ تَنْفَعَانك»، قال: فلما أسلم حُصين، جاء فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني الكلمتين اللتيْنِ وعَدتني، قال: «قل: اللَّهمَّ أَلْهِمني رُشدي، وأعِذْني من شرِّ نفسي»(9).
التعارف يسهم في الوقوف على النقاط المشتركة وأوجه التلاقي بين الداعي والمدعو
فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يملك قلب الرجل، حين أمر أصحابه بالتوسعة له؛ تقديراً واحتراماً، ثم بسؤاله عن النقاط التي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن إجابة الرجل فيها تتوافق معه، ثم يحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كلمات تنفعه إذا أسلم، مما جعل الرجل يسارع إلى الإسلام ويطلب التوجيه والإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمثلة التي تدل على أن البدء بنقاط الاتفاق مع المدعوين يسهم في تحقيق القبول والاستجابة ما ورد في حديث الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن في الزنى، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ أَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ أَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟»، وفي كل سؤال يجيب الفتي: لَا وَاللهِ، ويرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: «ولا الناس يحبونه»، قال: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ(9)؛ ففي الحديث تركيز على إقناع الفتى بعدم الزنى من خلال الوقوف على نقاط الاتفاق التي لفتت نظره إلى كراهية هذا السلوك ووجوب التخلي عنه.
والخلاصة أن البدء مع المدعوين بالمواضع التي يتفقون فيها ركيزة دعوية تسهم في استمالة قلوبهم وإقناع عقولهم وتوجيه سلوكهم نحو الصراط المستقيم.
_______________________________
(1) صحيح البخاري، (4492).
(2) الإنسان وعلم النفس: د. عبدالستار إبراهيم، ص 227.
(3) مهارات الاتصال الإداري والحوار، عبدالله حسن مسلم، ص 52.
(4) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟ ترجمة: عبدالمنعم الزيادي، ص 154.
(5) سيرة ابن هشام، (1/ 443)، وأخرجه أحمد في مسنده (15798).
(6) صحيح البخاري، (1654).
(7) أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح، (3419).
(8) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، (2/ 77)، وأخرجه الترمذي، (3483).
(9) أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح، (22211).