قدم علماء المسلمون على مدار قرن تقريباً عدداً ضخماً من الفتاوى والبيانات التي توضح حكم الشريعة فيما يجري على أرض فلسطين، وهي في مجموعها تتناول قضايا تغطي أوجه الصراع، من مثل: الاعتداءات الصهيونية وسبل مواجهتها، والتنازل بالبيع عن الأراضي الفلسطينية لصالح العدو، والصلح الواقع معهم.
وفيما يلي بيان لبعض الفتاوى التي وقع اختيارنا عليها وفق معيارين؛ الأول: مراعاة التسلسل التاريخي؛ حيث نبدأ بالفتاوى الأقدم وصولاً إلى الفتاوى الأحدث، والثاني: مراعاة البعد الإقليمي؛ حيث نقدم فتاوى من مختلف أرجاء العالم العربي لنبين أن القضية الفلسطينية مثار اهتمام المسلمين وليس ثمة اختلافات فيما بينهم حول محورية القضية والموقف الشرعي منها.
فتاوى بيع الأرض والتنازل عنها
استشعرت الدولة العثمانية صاحبة السيادة على فلسطين في وقت مبكر خطر الاستيطان اليهودي الذي بدأ يلوح مع تزايد هجرات الجماعات اليهودية، ففي عام 1892م حظرت بيع الأراضي الفلسطينية إلى اليهود حتى وإن كانوا من أصل عثماني، ورغم القوانين التي صدرت تباعاً تجرم عملية البيع، فإن آلاف الدونمات انتقلت إلى اليهود بحيل وذرائع قانونية مختلفة، ولذلك أخذت فتاوى بيع الأرض في الظهور، وأقدم الفتاوى التي عثرنا عليها تعود إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، وهي للشيخ رشيد رضا في مجلة «المنار» الذي بادر إلى بيان الحكم الشرعي دون أن يستفتي فعلياً، حيث كتب تحت عنوان «فتوى واقتراح على قارئي هذا الإنذار».
فأما نص الفتوى فهو: «إن من يبيع شيئًا من أرض فلسطين وما حولها لليهود أو للإنجليز فهو كمن يبيعهم المسجد الأقصى، وكمن يبيع الوطن كله؛ لأن ما يشترونه وسيلة إلى جعل الحجاز على خطر، فرقبة الأرض في هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده، وهي بهذا تعد شرعًا من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة، وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل، وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام».
وأما الاقتراح فهو «أن يبث هذا الحكم الشرعي في البلاد مع الدعوة إلى مقاطعة هؤلاء الخونة الذين يصرون على خيانتهم، في كل شيء من المعاشرة، والمعاملة والزواج والكلام حتى رد السلام».
ومنه نستنتج أن الشيخ كان من أوائل من وظف المقاطعة لخدمة القضية الفلسطينية، صحيح أنه استخدمها بحق بني جلدتنا، لكن يفهم من كلامه أن مقاطعة العدو أولى بل هي من المعلوم من الدين بالضرورة، وعليها إجماع علماء الإسلام قديماً وحديثاً.
ويعضد هذا الرأي فتوى صادرة عن المؤتمر الأول لعلماء الإسلام بفلسطين المنعقد عام 1935م، إذ تنص على أن كل من يبيع أرضاً لليهود سواء مباشرة أو عبر واسطة «كل أولئك ينبغي ألا يصلى عليهم، ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم».
فتاوى الجهاد
شكل قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين عام 1947م صدمة للضمير الإسلامي الذي راح يتساءل: ما الواجب على المسلمين للدفاع عن فلسطين؟ وفي هذا السياق صدرت فتاوى كثيرة ترفض التقسيم، وترى أنه لا مناص أمام المسلمين إلا التصدي له من خلال إعلان الجهاد، ومن ضمن هذه الفتاوى فتوى رئيس قضاة المملكة العربية السعودية بوجوب الجهاد على جميع المسلمين ضد اليهود المعتدين على فلسطين، والصادرة ضمن مجلة «الحج والعمرة» في ديسمبر عام 1947م.
ومما جاء فيها: «ليس للمسلمين عذر في التخلف عن الدفاع عن دينهم وأوطانهم بأموالهم وأنفسهم؛ لأن ذلك واجب ومتعين على كل مسلم، فاغتنموا معاشر المسلمين هذه الفرصة الثمينة وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، واستعينوا بربكم وأخلصوا نياتكم واستنصروه فإن الله ناصر من نصره».
ويندرج ضمن هذا السياق فتوى الشيخ حسن مأمون، مفتي الديار المصرية، المؤرخة في عام 1956م حول بيان الحكم الشرعي في الصلح مع دولة اليهود المحتلة، وهي فتوى مطولة ذكر فيها أن الاعتداء على أي بلد إسلامي عمل لا تقره الشريعة، والجهاد فرض متعين أولاً على جميع أهلها لا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عنهم، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانياً.
وفيما يتعلق بالصلح فإذا «كان على أساس رد الجزء الذي اعتدى عليه إلى أهله كان صلحاً جائزاً، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحاً باطلاً؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلاً مثله».
ويندرج فيه أيضاً فتوى الشيخ العلامة عمر سليمان الأشقر في شأن الاحتجاج بصلحي الحديبية والرملة على جواز عقد السلام مع اليهود، وفيها افترض الشيخ أن الاستشهاد بصلح الحديبية واتفاق صلاح الدين الأيوبي مع الصليبين في الرملة مما يستخدم للتلبيس على المسلمين لتمرير اتفاقيات الصلح مع العدو، وفي تفنيد هذا اللبس يتوقف الشيخ أمام بضع مسائل، ومنها:
– إذا اضطر المسلمون إلى توقيع اتفاق يقضي بوضع الحرب مع الأعداء، فلا يجوز تضمينه ما يخالف المس بالعقيدة؛ كأن يفرض على المسلمين مودة اليهود، وأن يسن تشريعات ترفع من القلوب بغضهم وعداوتهم.
– لا يجوز أن يتضمن الاتفاق التنازل عن بلاد المسلمين أو جزء منها.
– لا يجوز أن يكون عقد الجهاد مؤبداً، فقد نص الفقهاء على أنه لا بد أن يكون محدداً بمدة معينة حتى لا يؤدي إلى ترك الجهاد بالكلية.
وبناء على هذا، استظهر الشيخ أنه لا يجوز الصلح مع اليهود اليوم لعدم وجود مصلحة للمسلمين فيه، وإن تخيل البعض أن فيه مصلحة فهي للعدو أعظم؛ إذ يتمكن بهذا الصلح من فرض مصلحته على الدول العربية ونهب خيراتها واستغلال ثرواتها.
فتاوى المقاطعة
وقد التفت الفقهاء منذ وقت مبكر إلى أهمية تضييق الخناق الاقتصادي على العدو، وصدرت فتاوى أكثر من أن تحصى في هذا السياق، ومنها فتوى الشيخ حبيب العبيدي، مفتي الموصل، المؤرخة في يونيو 1939م، وذهب فيها إلى أن «الجهاد في الإسلام ليس مقصوراً على حمل السلاح، وخوض المعارك، ولكنه مفروض على كل بقدر طاقته وبحسب ما تمس الحاجة إليه، وبحسب ما تمس إليه الحاجة.. فالمقاتل مجاهد، والمرابط مجاهد، ومن يمدهما بالمال أو الكراع أو العتاد كل أولئك مجاهد، ومن يعمل على إضعاف العدو وتقوية المجاهدين بأي وسيلة كانت فهو مجاهد، ولكل درجات مما عملوا».
ويلتفت الشيخ عمر الأشقر بعد عقود من فتوى الشيخ العبيدي إلى بُعد آخر للمقاطعة؛ وهو البعد الاجتماعي، حيث سئل عن حكم التزوج من «الإسرائيليات»، فذكر «أن الحكم الشرعي في هذه الفتوى واضح المعالم، لأنه لا يجوز الزواج من المحاربين، وهؤلاء محاربون، وأما إن كانت امرأة يهودية تسكن في ديار المسلمين فحكمها حكم أهل الذمة، أما الزواج من اليهوديات في أرض فلسطين فلا يجوز».
الخلاصة، أن فتاوى علماء المسلمين المتعلقة بفلسطين حثت على وجوب نصرة فلسطين بكل الوسائل سواء بالدعوة إلى الجهاد، أو الحيلولة دون بيع الأراضي الفلسطينية، أو بمقاطعة العدو اقتصادياً واجتماعياً.