للدعم غير المحدود والتحالف الصلب بين الولايات المتحدة والدول الغربية من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى، جذور عميقة تمتد إلى فجر التاريخ، والواقع أن فهم الأسباب والدوافع وراء هذا الدعم الدائم ليس بالأمر الصعب، إذا ما فهمنا ديناميكيات العلاقات الدولية في عالم تسيطر عليه أمريكا والغرب سيطرة شبه كاملة.
ولفهم حجم وأسباب ودوافع الدعم الأمريكي والغربي غير المحدود لـ«إسرائيل»، سنحاول في هذه المساحة المحدودة إلقاء بعض الضوء على العوامل المختلفة التي ساهمت في هذه العلاقة، وعلى رأس هذه العوامل التي شكلت هذا التحالف الفريد تتربع المصالح الإستراتيجية، ثم تأتي القيم الغربية والأمريكية المشتركة والصلات الدينية.
نظرة الإنسان الغربي للآخر:
مخطئ من يظن أن الإنسان الغربي الآن في القرن الحادي والعشرين قد اختلف عن أسلافه منذ مئات السنين، يقول الأمير شكيب أرسلان: إنَّ الإفرنجي هو الإفرنجي، ما تغير شيء من طبعه، فهو اليوم كما كان عندما زحف إلينا من ثمانمائة سنة، وإن المدَنيَّة التي يتدرّع بدعواها إن هي إلا غطاء سطحي لما هو كامن في طبعه، متهيئ للظهور لأدنى حادث، فالمدنية العصرية لم تزد الإفرنجي إلا تفنناً في آلات القتل، وفصاحة في التمويه وتسمية الأشياء بغير أسمائها.. وبالجملة فالذي ازددناه منه هو الرثاء لا غير»!
التفوق العرقي وشعب الله المختار!
في كتاب مهم للكاتب كليفورد لونجلي، ترجمة د. قاسم عبده قاسم، بعنوان «الشعب المختار.. الأسطورة التي شكلت إنجلترا وأمريكا»، يثبت الكاتب أن مقولة «شعب الله المختار»، التي ادعاها اليهود لأنفسهم قد انتقلت إلى الكاثوليكية التي رأت أن الله غضب على اليهود فانتقل الاختيار للكاثوليك، ولما ثار البروتستانت على الكاثوليك انتقل لهم اختيار الله، فأصبحوا هم شعب الله المختار، وشعب الله المختار هم البشر الحقيقيون، في رأي هؤلاء، وباقي البشر في مرتبة أقل بكثير.
الروابط التاريخية واللاهوتية بين اليهودية والمسيحية:
تؤدي الروابط الدينية العميقة الجذور بين اليهودية والمسيحية دوراً مهماً في تعزيز الدعم الأمريكي والغربي غير المحدود لـ«إسرائيل»، فباعتبارها تحتل مسقط رأس هاتين الديانتين، تتمتع «إسرائيل» بأهمية روحية وتاريخية هائلة، فهي بالنسبة للمسيحيين تعتبر الأرض المقدسة التي عاش فيها المسيح، ووعظ، وصلب، كما في عقيدتهم، ولذلك فالتراث اليهودي المسيحي، وخصوصاً بالنسبة للمحافظين الجدد، يخلق رابطة تدعو العديد من المؤمنين على تقديم دعم لا يتزعزع للدولة اليهودية.
تفوق العرق الأبيض:
قد يقول قائل: إن الغرب مجتمع علماني، ليس متديناً، والحق أن الغرب منقسم بين العلمانية والتدين، ولكن العلمانيين يتفقون مع المتدينين في هذه الجزئية، رغم اختلافاتهم الكثيرة الأخرى، فإذا كان المتدين يرجع تميزه للاختيار الإلهي، فالعلماني يرجع تفوقه للعرق.
وما زال الغربيون يؤمنون بتفوق العرق الأبيض؛ وعلى هذا الأساس تنبني سياساته وإستراتيجياته، ففي 31 مارس 2021م، أعدت لجنة التفاوت العنصري والعرقي في الحكومة البريطانية تقريراً خلص إلى وجوب اعتبار بريطانيا «مثالاً يحتذى للدول الأخرى ذات الأغلبية البيضاء»، وهو الاستنتاج الذي أثار غضب مراقبين، ووصفوه بأنه «تستر على قضايا عرقية»، قد بدت البغضاء من أفواههم!
هذا الاعتقاد الغربي بالتفوق هو الذي يفسر سياسة الكيل بمكاييل، وعدم التأثر بسفك الدماء مهما كثرت، وحصد الأرواح بالملايين، طالما كانت تلك الدماء ليست دماء زرقاء منتمية للعرق الأوروبي الأبيض!
أنواع وحجم الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني:
تشكل المساعدات الأمريكية للكيان الصهيوني 55% من جميع المساعدات الأمريكية للعالم، وتفيد التقديرات بأنها وصلت إلى 300 مليار دولار منذ عام 1949م، وهي ليست معونات عسكرية فقط، ولكنها معونات متنوعة تنتظم كل مجالات الحياة؛ سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية وعلمية وتعليمية، علاوة على المعونات العسكرية السخية والمتقدمة.
ويعكس حجم الدعم السياسي والمساعدات الخارجية الأمريكية لـ«إسرائيل» مقدار الاهتمام الذي توليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتثبيت وجود الكيان الصهيوني، الذي تعتبره الولايات المتحدة شريكاً حيوياً في المنطقة، تجمعها به أهداف إستراتيجية كثيرة.
قاعدة أمريكية متقدمة:
قال «جو بايدن» عام 1986م عندما كان مجرد عضو في الحزب الديمقراطي: «لو لم تكن هناك إسرائيل لكان على أمريكا خلق إسرائيل لحماية مصالحها»، وكررها عندما التقى رئيس الكيان الصهيوني «إسحاق هرتسوغ»: «حبي لإسرائيل قديم ومتجذر»، فلم كل هذا الحب وكل هذا الدعم لكيان مغتصب مرتكب لكل أنواع الانتهاكات التي يمنعها القانون الدولي؟! لأنه جزء من المنظومة الغربية الجائرة، قاعدة أمريكية مزروعة في قلب العالم العربي والإسلامي، ضربها ضرب لأمريكا وحلفائها، وإيلامها إيلام لأمريكا وللمنظومة الأمريكية المهيمنة على العالم.
الأهمية الجيوسياسية للمنطقة العربية:
أحد الأسباب الرئيسة وراء الدعم اللا محدود الذي تقدمه أمريكا والدول الغربية للكيان الصهيوني يكمن في الأهمية الجيوسياسية للمنطقة، فهذه المنطقة موطن لمصالح إستراتيجية حيوية، من بينها احتياطيات النفط الهائلة، وطرق التجارة الحيوية، فمن خلال وجود هذه القاعدة الغربية «إسرائيل»، تضمن الولايات المتحدة والدول الغربية الهيمنة على منطقة حيوية وإبقائها مضطربة ومتخلفة ليسهل السيطرة عليها وسرقة مواردها، كما يسمح الموقع الإستراتيجي للقاعدة الغربية «إسرائيل» للدول الغربية بإدامة إدارة الهيمنة.
إن ملحمة «طوفان الأقصى» قد زلزلتهم؛ لأنها طعنت ثوابت أمريكا والغرب طعنات نافذة للدرجة التي جعلت ردود فعلهم تخرج متسرعة وغير منضبطة بضوابط المكر والخداع التي تتميز بها، لقد أذهلتهم المفاجأة للدرجة التي جعلتهم يكذبون كذباً مفضوحاً ويدلسون تدليساً مكشوفاً للدفاع عن إجرامهم ولا إنسانيتهم!
ظنوا أنهم بمكرهم الذي يزيل الجبال، قد حولونا إلى موتى يمشون على الأرض، فخيب الله ظنهم وآتاهم من حيث لم يحتسبوا، ففاجأهم المجاهدون مفاجآت أذهلتهم وما زالوا في ذهول، والبقية ستأتي حتماً، فهذا وعد الله القائل في محكم التنزيل: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).