يعتصر القلب لما يحدث في فلسطين، وتذرف الدموع على شدة حصار أهل غزة، ولعلنا لا نستطيع فصل الصراع بالأراضي الفلسطينية عن الصراع بين كفار مكة والنبي صلى الله عليه وسلم، فكله تمثل لأبدية الصراع بين الإيمان والكفر، الذي بدأ منذ خلق آدم عليه السلام، ولن ينتهي إلا بقيام الساعة، وحينما ننظر في قصص الأنبياء عمومًا والسيرة النبوية على وجه الخصوص نعي العبر التي تُبصر بطبيعة الصراع، ونستنبط الدروس التي توقظ الهمم، فتحثها على السير إلى النصر والتمكين، وتسلي النفس على ذلك كله بأنها إن ثبتت فهي على طريق الأنبياء والصالحين، كما قال الله عز وجل: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، ومن ذلك ما حكته السيرة النبوية عما حصل في فترة الاستضعاف الأولى للمسلمين وحصارهم، ولعل من المفيد التعرض له واستخلاص العبر منه لمناسبة لما يحدث في غزة الآن، نجى الله أهلها ومكنهم من عدوهم.
فترة الاستضعاف المكية
لم تقتصر تربية النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في مكة على التعريف بالعقيدة فقط، بل أيضاً احتوت على تربيتهم عليها عمليًا بإزكاء خصال الصبر والثبات، وبين لهم أن الطريق إلى الجنة مليء بالابتلاء والأذى في سبيل الله، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142)، وقد أذاق الكفارُ المسلمينَ المستضعفين ألوانًا من العذاب.
فقد جاء عن خبَّاب بن الأرت رضي الله عنه ما يبين شدة الأذى والبلاء الذي تعرض له الصحابة رضوان الله عليهم في مكة، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحْفَر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» (رواه البخاري).
فهذا الأسلوب في الطلب من خبَّاب رضي الله عنه يوحي بما وراءه من شدة العذاب والبلاء الذي يلتمس لزواله بصيصًا من الفرج، فجاء جواب النبي صلى الله عليه وسلم مفيدًا لأصحابه ومن لحق بهم لأخذ الدروس الآتية:
1- أن التدافع بين الحق والباطل والابتلاء فيه سُنة من سنن الله عز وجل في خلقه، قال الله سبحانه وتعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).
2- في ذكر صور عذاب مسلمي الأمم السابقة حث على الصبر وتسلية النفوس أنها على طريق الرسل وتابعيهم من الصالحين.
3- من فوائد الفتن والابتلاءات أنها ترفع درجات المؤمنين وتميزهم عن أهل النفاق ويتخذ الله منهم الشهداء، قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران :140).
4- من سنن الله الكونية أن العاقبة للمتقين؛ إما بالنصر أو الشهادة، وأن الخزي والذلة للكفار مهما تمكنوا واستعلوا، يقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) (التوبة: 52).
الحصار في شعب أبي طالب
ولما وجد الكفار أن التنكيل لن يضعف المسلمين، بل يزداد عددهم يوماً بعد يوم، تواطؤوا على حصارهم اقتصاديًا واجتماعيًا، فحُوصر النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني هاشم لمدة ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، لا يتاجَرون ولا يناكحون ولا يُزاوَرون، وقد أُجهد بنو هاشم من ذلك أشد الإجهاد حتى أكلوا أوراق الشجر، ومن أهم الدروس المستفادة من تلك الواقعة:
1- أن الحصار من الأساليب التي يتبعها الكفار للقضاء على المسلمين أو لإجبارهم للنزول على شروطهم، ولكن المسلمين يستمدون قوتهم من الله ولا يبيعون دينهم بدنياهم.
2- لم تقتصر معاهدة الكفار على مقاطعة المسلمين فقط، بل وكل من تعاطف معهم أو قرب منهم، ولم ينل ذلك من الجميع، بل صبروا حتى فرج الله عنهم.
3- أن الكفار ينفقون الأموال الطائلة ويجتمعون على فتنة المسلمين والكيد لهم، ولكنها تكون وبالًا عليهم، كما قال الله عز وجل: (إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَموَالَهُم لِيَصُدٌّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيهِم حَسرَةً ثُمَّ يُغلَبُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحشَرُونَ) (الأنفال: 36).
4- أن انتشار خبر ما فعلته قريش من حصار المسلمين ثم ثبات المسلمين على دينهم رغم هذا كان من أعظم الدعاية لدين الإسلام من حيث لم تدرك قريش، وما فعله كفار قريش في هذا العصر لا يختلف كثير عما يفعله الكيان الصهيوني ومن عاونه على حصار غزة -إن لم يفوقه وحشية- فالعالم كله متفق على أن يبذل المال والسلاح ويكرس الإعلام لنصرة الكيان الصهيوني الذي تجاوزت وحشيته أقبح الحيوانات، وإنا لمصدقون بوعد الله الذي لا يخلف وعده أن كل ذلك حتمًا إلى زوال، قال الله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً {5} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً {6} إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) (الإسراء).