لقد كان الشعراء العرب وما زالوا يعبرون عن الواقع بصورة دقيقة، فها هو المتنبي يعبر عن أولئك الذين يقبلون الذل والمهانة يومًا ما، بأنهم سيقبلونها بعد ذلك مرات ومرات حتى يستمرئون الذل، ويصبح الذل عندهم شيئًا عاديًا لا يستحيون منه إذا فعلوه، قال المتنبي:
مَن يَهُن يسهُل الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام
أي أنه يشبه من يقبل الذل والمهانة بالميت الذي أصبح لا يتألم لما يصيبه من جرح، لا لأن الجرح لا يؤلم، ولكن لأنه هو أصبح بالموت لا إحساس عنده، وكذلك من يقبل الذل والمهانة يسهل عليه الهوان.
والعربي الأصيل لا يقبل هذا الذل أبدًا ولا يقبل المهانة من أحد، وهذا ما يعبر عنه عنترة ابن شداد بقوله:
لا تَسقِني ماءَ الحَياةِ بِذِلَّةٍ بَل فَاِسقِني بِالعِزِّ كَأسَ الحَنظَلِ
فعنترة كان لا يقبل الضيم ولا يتقبل المهانة من أحد، وذلك لأصل معدنه وطيب نفسه، فهو لا يحب الحياة إن كانت بالمذلة والمهانة، في حين أنه يقبل كأس الحنظل طالما يشربه بالعز.
فهذا شعار العربي الأصيل، فكيف بشعار المسلم الذي يعتز بعزة الله تعالى، هو لا يقبل المهانة أبدًا ولا يرضى بالضيم، وإذا ما أهين يومًا فإنه يزأر كالأسد الهصور ويفترس افتراس الليث؟!
أقول هذا وحال أمتنا اليوم أصبح يدعو للشفقة، بل أصبح لا يسر صديقًا ولا عدوًا، ترى ما هذا الذي نحن فيه، والله إن عقولنا لا تكاد تصدق ما تراه أعيننا، بل يا ليتنا عميت عيوننا قبل أن نرى ما رأينا، ويا ليتنا صُمَّت آذاننا قبل سماع ما سمعنا، فوالله لباطن الأرض اليوم خير لنا من ظاهرها ونحن نرى إخواننا تسيل دماؤهم، تقطع أوصالهم، تقتل وترمل نساؤهم، ييتم أطفالهم، يودعون كل يوم بالمئات من شهدائهم، بيوتهم هدمت، ودورهم خربت، وأرضهم حرقت، سقطت المستشفيات على رؤوسهم، وقطعت المياه والكهرباء والوقود عن حياتهم، تنزل عليهم الحمم ليل نهار، فلا أمن ولا أمان في حياتهم، لا يعرفون النوم من كثرة وشدة آلامهم.
فهل هذه حقًا هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! هل هذه خير أمة أخرجت للناس كما قال عنها ربنا سبحانه؟! هل هذه الأمة هي التي كان يقودها عمر ابن الخطاب رضي الله عنه
ترى ماذا دهانا اليوم؟!
هل يعقل أن أمة تصدر الغاز والكهرباء لغيرها من الدول وأهل غزة ينامون في ظلام دامس، لا يرى بعضهم بعضًا، بعدما قطع العدو عنهم الكهرباء فحول حياتهم لجحيم لا يطاق، وأمتنا لا تقوى على أن تمدهم بالغاز ولا الكهرباء، فيا ترى ماذا نقول؟ سوى أن هذه الأمة ليست أمتنا!
هل يعقل أن أمة يجري بها أطول الأنهار العذبة من المياه في الدنيا، (النيل ودجلة والفرات) وإخوتنا وأحبتنا ومهج قلوبنا في غزة لا يجدون شربة ماء يشربونها، حتى إنهم يشربون ماء ملوثًا يزيد من مرضهم وربما يقضي عليهم، وهذه الأمة لا تستطيع أن توصل لهم شربة ماء نقية، فيا ترى ماذا نقول؟ سوى أن هذه الأمة ليست أمتنا!
وهل يعقل أن أمة هي أغنى الأمم اقتصاديًا، وأكثر الأمم عددًا، وأكثر الأمم تباهيًا بجيوشها، وأكثر الأمم شراء لأسلحتها، وترى ما ترى مما يحدث لإخوتها في الدين والعروبة، من الحمم التي تنزل على رؤوسهم ليل نهار، وترى الدمار الحاصل في دورهم وأرضهم ومؤسساتهم، ولا تقوى على أن تحرك صاروخًا واحدًا لا أقول يضرب عدوهم، بل فقط يرد عنهم الطائرات القاذفة بالحمم، ويتفرجون ويتبجحون ويتغنون بما لديهم من سلاح وجيوش، فيا ترى ماذا نقول؟ سوى أن هذه الأمة ليست أمتنا!
هل يعقل أن أمة مثل أمتنا تطبع مع عدوها المحتل، وهو هو نفس العدو الذي يحتل الأرض وينتهك العرض ويدمر أرض المسرى ويريد هدم «الأقصى»، وهي تقيم معه المعاهدات وتعقد معه الاتفاقات، وهو ما التزم يومًا بعهد، ولا راعى يومًا حرمة، ولا حافظ يومًا على اتفاق، وأمتنا العظيمة لا تقدر على أن تنقض عهوده المزيفة، ولا أن ترد له عهوده الكاذبة، رغم ما بدر لهم من خيانته، وكذبه عليهم، فيا ترى ماذا نقول؟ سوى أن هذه الأمة ليست أمتنا!
هل يعقل أن أمة تربو على المليارين من البشر؛ أي تعدل ثلث العالم، ولا تقوى على نصرة مليونين من خيرة أبنائها، وحقًا لا عجب لأنها من قبل لم تنصر أهل البوسنة، ولا أهل الإيغور في الصين، ولا المسلمين في أفريقيا الوسطى، ولا من حرقوا بالنار من أمتنا في ميانمار، بل ربما أيضًا كانت تقف مع الجلاد ضد الضحية، تمامًا كما تفعل اليوم مع حبات قلوبنا في غزة، فيا ترى ماذا نقول؟ سوى أن هذه الأمة حقًا ليست أمتنا!
يا أمة ضحك الزمان من بلاهتها! وعجب الزمان من تياستها! اذهبي حيث شئت، وأعيدي لنا أمتنا التي نعرف أصالتها وشجاعتها وكرمها وعزتها.