ما زالت الأحداث الدامية مستمرة على أمتنا وشعبنا الأبي في فلسطين وغيرها، وما زالت غزة تحت القصف الدموي على المدنيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ وحتى البهائم الذي لا يُعرف وصفاً له إلا الجبن والحقارة الإنسانية التي لم تعرف لغير المحتل نموذجاً مشابهاً على مر التاريخ، وما زلنا نحاول أن نستقصي الوسائل المتاحة لنا في عرض قضيتنا القومية والتاريخية والدينية.
لقد اتفقت الأمم جميعاً والمواثيق الدولية وجميع المؤسسات العالمية قانونية وإنسانية قديماً وحديثاً وقبلهم الأديان والتعاليم السماوية، بل والعقول الجمعية والأعراف المجتمعية؛ على إقرار حق تقرير المصير الذي يكفل للشعوب والدول تحكماً حقيقياً في مقدراتهم ومصيرهم، وتصرفاً تاماً في ثرواتهم وممتلكاتهم، وحرية تامة لأفرادهم ومؤسساتهم، فهو أبسط دليل على الوجود، وأقصد به هنا الوجود الأرضي التاريخي الذي لا يستطيع أحد أن يلغيه أو ينكره مهما عمي أو تعامى.
وهذا ما أقره الإسلام، فلم يعرف إسلامنا منذ أن أشرقت شمسه على الدنيا سلباً لصاحب حق ومكتمل ولاية، فلم يسلب ملكاً ولم يقرر مصيراً لأحد من الأفراد والجماعات في شيء يخصه من مليكة أو أرض أو قرار، وفي رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والسلاطين دليل على تضمين حقهم في ملكهم وسلطانهم، وهذا بالطبع فيما لم يأت به نص شرعي واجب وقطعي لعلة معلومة ومقصد حميد.
لقد فتح لنا الإسلام نافذة حق تقرير المصير على مصراعيها احتراماً للحقوق، وتقديراً للعقول، وصوناً للأعراف، وإكراماً لبني الإنسان الذي أعلنه في دستوره بقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، فيقرر الإنسان بنفسه ويتحمل نتيجة تقريره في المعتقد والطريق والقرار والحكم والأرض وغيرهما.
والآيات في كتاب الله تعالى كثيرة في العقيدة جاء منها: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29)، وفي اختيار الطريق: (فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) (يونس: 41)، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، وفي القرار: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) (الصافات: 102)، وفي الحكم: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: 33)، وفي الأرض: (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت: 56)، (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) (النساء: 97)، وغير ذلك كثير.
وجاء المنهج النبوي في تفاصيل مختلفة ووقائع متعددة ليقرر هذا الحق للأفراد والمجتمعات، وليضع مع كل موقف وحالة ضابطاً لمعياره وتنفيذه الصحيح على الأرض.
وإن جمال هذه القضية التي يتشدق بها المجتمع الدولي في مواثيقه نظرياً وورقياً، لكنه لا ينصفها عملياً وأرضياً -والقضية الفلسطينية وشعبها خير مثال- قد أقرها المنهج النبوي ووضع لها صوراً واقعية تشهد له في تفرده وتؤكد سماحة منهجه واحترام اتباعه، ولعلني أذكر بعضاً من هذه الصور والقرارات لأخلص بعدها لنتائج مهمة:
فقد أعطى الإنسان حق تقرير المصير في التعبد ما لم يكن فرضاً حتمياً، كما جاء عن البخاري عَنْ عَائِشَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ».
كما أعطى حق تقرير المصير في الثروات والممتلكات الخاصة، كما عند البخاري: أَنْ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، أدباً، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، وكذلك أعطى حق تقرير المصير في أمور الدنيا للناس قائلاً: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ».
وفي الرجوع للزوج أو تركه كذلك كما في قصة بريرة مع زوجها مغيث فَقَالَ لها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَاجَعْتِهِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ» قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ، بل في اختيار الأرض التي يسكنها المرء، روى أحمد عَنْ سَلَمَةَ، أَنَّهُ قال: اسْتَأْذَنَت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَدْوِ فَأَذِنَ لَي.
وما من موقف في غير هذا إلا ويكتب بهذا الحق الذي لا جبر فيه ولا وصاية، ما دام الفرد كاملاً أهليته غير مسلوب ولايته.
وما يعنينا هنا في زخم هذا العرض المتناهي الجمال على كافة الأصعدة التي شكلها الإسلام في حق تقرير المصير، هو ما يتعلق بسلطان الأفراد والأمم، فإذا كان حق تقرير المصير أقر في كل ما مضى وغيره، فإن أهم ما نحتاجه هنا هو حق تقرير الشعوب في مصائرها بامتلاك أرضها وثروات بلادها والتحكم في حدودها وتنمية حضارتها، وتصنيع مواردها وفي سلطان الفرد والدول حضوراً ومكثاً: فعند أحمد عن أَبَي شُعَيْبٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ، فَأَتَيْتُ غُلَامًا لِي قَصَّابًا، فَأَمَرْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ رِجَالٍ قَالَ: ثُمَّ دَعَوْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَابَ، قَالَ: «هَذَا قَدْ تَبِعَنَا، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِلَّا رَجَعَ»، فَأَذِنَ لَهُ.
ولو تخيلنا هذا الموقف في بيان حق تقرير المصير يمكننا أن نستنتج عدة مقررات من هذا الحديث:
– ففي رصد أبي شعيب لأحوال من حوله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه حرية في الاستطلاع ووقوف على أمرهم وتفقد لاحتياجهم، وهذا أول علامات الحرية، ولو أسقطناه على واقع الدول لقلنا: هذا أشبه بحرية التنقل والتحرك واستطلاع الرأي وإدراك الواقع المحيط للأفراد والحدود، ولا يكون هذا بغير حق تقرير المصير.
– أخذ القرار منه وعقده في دعوة النبي وجمعه، لبيته وسلطانه هو بمثابة دعوة السياسيين والقيادات وغيرهم لسلطانه وملكه على وليمة غذاء للتقارب وللمباحثات والتعاون المشترك، ولا يكون هذا لمسلوب حق المصير وحرية التحرك.
– وجود الخادم والموظف الذي يطلعه سيده على الحال ويأمره بالفعال لا يتحقق له هذا إلا إذا كان صاحب سلطان وله الكلمة العليا على من تحته من أفراد وشعوب توجيهاً ونهياً، ولا يكون هذا إلا في صاحب حق تقرير المصير المتصرف في ثروته البشرية.
– وجود وتجهيز الطعام وتحضيره صورة من صور امتلاك الثروة المملوكة للدول التي تستخدمها متى شاءت وكيفا شاءت، فليس هناك عوز واحتياج للمساعدات، إنما من ثروات بيتي ووطني الذي أتحكم فيه وأتصرف في مكنونه.
– يبقى سلطان الإنسان وحدود بيته كسلطان الدول وحدودها لا يدخلها إلا من أذن له ولا يقعد فيه إلا من دعي إليه، ليس هناك كلمة لغير الحاكمين لها المتصرفين في ملكها، يأت النبي الباب ويستأذن بالدخول ويتكلم في حق أحدهم الذي لم يدع إلى ما دعوا إليه، والقرار لصاحب الدار والسلطان.
إن حق تقرير المصير الذي أعطي لرجل في سلطانه مع أعلى سلطة في حياته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوقفنا متحسرين على نزع هذا الحق ممن هم أقل شأناً وأعصى عباداً ليتحكموا في أمة تخرج حفظة القرآن كل عام، وتنتج من لا شيء كل شيء، وتبدع باستخراج عقول واستحداث اختراعات لا قبل لمؤسسات بأكملها بها، لقد فقدنا حقاً أقره الإسلام والمواثيق الدولية آن الأوان لعودته وإن بذلت في حقه التضحيات.